(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ *
إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ
فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ
مثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَـنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ *
قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ
إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ
تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ منَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ
طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَإِن ذُكرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَجَآءَ
مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يقَوْمِ اتَّبِعُواْ
الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ *
وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ
مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَني
شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ * إِني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ *
إِني آمَنتُ بِرَبكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يلَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ *
وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ منَ السَّمَآءِ وَمَا
كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ
خَامِدُونَ)
تفسير
ابن كثير : يَقُول تَعَالَى وَاضْرِبْ يَا مُحَمَّد لِقَوْمِك الَّذِينَ كَذَّبُوك
" مَثَلًا أَصْحَاب الْقَرْيَة إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ " قَالَ اِبْن
إِسْحَاق فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَكَعْب
الْأَحْبَار وَوَهْب بْن مُنَبِّه إنَّهَا مَدِينَة أَنْطَاكِيَّة وَكَانَ بِهَا
مَلِك يُقَال لَهُ أنطيخس بْن أنطيخس بْن أنطيخس وَكَانَ يَعْبُد الْأَصْنَام
فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ ثَلَاثَة مِنْ الرُّسُل وَهُمْ صَادِق وَصَدُوق
وَشَلُوم فَكَذَّبَهُمْ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَة بْن الْخَصِيب وَعِكْرِمَة
وَقَتَادَة وَالزُّهْرِيّ أَنَّهَا أَنْطَاكِيَّة وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ بَعْض
الْأَئِمَّة كَوْنهَا أَنْطَاكِيَّة بِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْد تَمَام الْقِصَّة
إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
تفسير القرطبي :
خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أُمِرَ أَنْ يَضْرِب
لِقَوْمِهِ مَثَلًا بِأَصْحَابِ الْقَرْيَة هَذِهِ الْقَرْيَة هِيَ أَنْطَاكِيَة
فِي قَوْل جَمِيع الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ . نُسِبَتْ إِلَى
أَهْل أنطبيس وَهُوَ اِسْم الَّذِي بَنَاهَا ثُمَّ غُيِّرَ لَمَّا عُرِّبَ ;
ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيّ . وَيُقَال فِيهَا : أَنْتَاكِيَة بِالتَّاءِ بَدَل الطَّاء
. وَكَانَ بِهَا فِرْعَوْن يُقَال لَهُ أنطيخس بْن أنطيخس يَعْبُدُ الْأَصْنَام ;
ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ , وَحَكَاهُ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس عَنْ كَعْب وَوَهْب .
فَأَرْسَلَ اللَّه إِلَيْهِ ثَلَاثَة : وَهُمْ صَادِق , وَصَدُوق , وشلوم هُوَ
الثَّالِث . هَذَا قَوْل الطَّبَرِيّ . وَقَالَ غَيْره : شَمْعُون وَيُوحَنَّا .
وَحَكَى النَّقَّاش : سَمْعَان وَيَحْيَى , وَلَمْ يَذْكُرَا صَادِقًا وَلَا
صَدُوقًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " مَثَلًا " و " أَصْحَاب الْقَرْيَة "
مَفْعُولَيْنِ لِـ اضْرِبْ , أَوْ " أَصْحَاب الْقَرْيَة " بَدَلًا مِنْ " مَثَلًا
" أَيْ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَل أَصْحَاب الْقَرْيَة فَحَذَفَ الْمُضَاف . أُمِرَ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْذَارِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ
أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِكُفَّارِ أَهْل الْقَرْيَة الْمَبْعُوث إِلَيْهِمْ
ثَلَاثَة رُسُل . قِيلَ : رُسُل مِنْ اللَّه عَلَى الِابْتِدَاء . وَقِيلَ : إِنَّ
عِيسَى بَعَثَهُمْ إِلَى أَنْطَاكِيَة لِلدُّعَاءِ إِلَى اللَّه
.
تفسير الطبري :
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَاب
الْقَرْيَة إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَمَثِّلْ يَا
مُحَمَّد لِمُشْرِكِي قَوْمك مَثَلًا أَصْحَاب الْقَرْيَة ذُكِرَ أَنَّهَا
أَنْطَاكِيَة , { إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي
هَؤُلَاءِ الرُّسُل , وَفِيمَنْ كَانَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى أَصْحَاب الْقَرْيَة ,
فَقَالَ بَعْضهمْ : كَانُوا رُسُل عِيسَى ابْن مَرْيَم , وَعِيسَى الَّذِي
أَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِمْ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22252 حَدَّثَنَا بِشْر ,
قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلًا أَصْحَاب الْقَرْيَة إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } قَالَ : ذُكِرَ
لَنَا أَنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم بَعَثَ رَجُلَيْنِ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى
أَنْطَاكِيَة مَدِينَة بِالرُّومِ فَكَذَّبُوهُمَا , فَأَعَزَّهُمَا بِثَالِثٍ , {
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ } 22253 حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار ,
قَالَ : ثنا يَحْيَى وَعَبْد الرَّحْمَن , قَالَا : ثنا سُفْيَان , قَالَ : ثني
السُّدِّيّ , عَنْ عِكْرِمَة { وَاضْرِبْ لَهُمْ مِثْلًا أَصْحَاب الْقَرْيَة }
قَالَ : أَنْطَاكِيَة وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ كَانُوا رُسُلًا أَرْسَلَهُمْ اللَّه
إِلَيْهِمْ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22254 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ :
ثنا سَلَمَة , قَالَ : ثنا اِبْن إِسْحَاق , فِيمَا بَلَغَهُ , عَنْ اِبْن عَبَّاس
, وَعَنْ كَعْب الْأَحْبَار , وَعَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه , قَالَ : كَانَ
بِمَدِينَةِ أَنْطَاكِيَة , فِرْعَوْن مِنْ الْفَرَاعِنَة يُقَال لَهُ أبطيحس بْن
أبطيحس يَعْبُد الْأَصْنَام , صَاحِب شِرْك , فَبَعَثَ اللَّه الْمُرْسَلِينَ ,
وَهُمْ ثَلَاثَة : صَادِق , وَمَصْدُوق , وَسَلُّوم , فَقَدِمَ إِلَيْهِ وَإِلَى
أَهْل مَدِينَته , مِنْهُمْ اِثْنَانِ فَكَذَّبُوهُمَا , ثُمَّ عَزَّزَ اللَّه
بِثَالِثٍ ; فَلَمَّا دَعَتْهُ الرُّسُل وَنَادَتْهُ بِأَمْرِ اللَّه , وَصُدِّعَتْ
بِاَلَّذِي أُمِرَتْ بِهِ , وَعَابَتْ دِينه , وَمَا هُمْ عَلَيْهِ , قَالَ لَهُمْ
: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ
وَلَيَمَسَّنكُمْ مِنَّا عَذَاب أَلِيم }
تفسير
ابن كثير : وَقَوْله تَعَالَى : " إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اِثْنَيْنِ
فَكَذَّبُوهُمَا " أَيْ بَادَرُوهُمَا بِالتَّكْذِيبِ " فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ "
أَيْ قَوَّيْنَاهُمَا وَشَدَدْنَا أَزْرهمَا بِرَسُولٍ ثَالِث . قَالَ اِبْن
جُرَيْج عَنْ وَهْب بْن سُلَيْمَان عَنْ شُعَيْب الْجِبَابِيّ قَالَ كَانَ اِسْم
الرَّسُولَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ شَمْعُون وَيُوحَنَّا وَاسْم الثَّالِث بُولُص
وَالْقَرْيَة أَنْطَاكِيَّة " فَقَالُوا " أَيْ لِأَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَة "
إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ " أَيْ مِنْ رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ
يَأْمُركُمْ بِعِبَادَتِهِ وَحْده لَا شَرِيك لَهُ وَقَالَهُ أَبُو الْعَالِيَة
وَزَعَمَ قَتَادَة أَنَّهُمْ كَانُوا رُسُل الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى
أَهْل أَنْطَاكِيَّة .
تفسير
القرطبي : إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ
اثْنَيْنِ : أَضَافَ الرَّبّ ذَلِكَ إِلَى نَفْسه ; لِأَنَّ عِيسَى
أَرْسَلَهُمَا بِأَمْرِ الرَّبّ , وَكَانَ ذَلِكَ حِين رُفِعَ عِيسَى إِلَى
السَّمَاء . فَكَذَّبُوهُمَا : قِيلَ
ضَرَبُوهُمَا وَسَجَنُوهُمَا . فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ : أَيْ فَقَوَّيْنَا وَشَدَّدْنَا
الرِّسَالَة " بِثَالِثٍ " . وَقَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم : " فَعَزَزْنَا
بِثَالِثٍ " بِالتَّخْفِيفِ وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ :
وَقَوْله تَعَالَى : " فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ " يُخَفَّف وَيُشَدَّد ; أَيْ
قَوَّيْنَا وَشَدَّدْنَا . قَالَ الْأَصْمَعِيّ : أَنْشَدَنِي فِيهِ أَبُو عَمْرو
بْن الْعَلَاء لِلْمُتَلَمِّسِ : أُجُدٌّ إِذَا رَحَلَتْ تَعَزَّزَ لَحْمُهَا
وَإِذَا تُشَدُّ بِنِسْعِهَا لَا تَنْبِسُ أَيْ لَا تَرْغُو ; فَعَلَى هَذَا تَكُون
الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى . وَقِيلَ : التَّخْفِيف بِمَعْنَى غَلَبْنَا
وَقَهَرْنَا ; وَمِنْهُ : " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] . وَالتَّشْدِيد
بِمَعْنَى قَوَّيْنَا وَكَثَّرْنَا . وَفِي الْقِصَّة : أَنَّ عِيسَى أَرْسَلَ
إِلَيْهِمْ رَسُولَيْنِ فَلَقِيَا شَيْخًا يَرْعَى غُنَيْمَاتٍ لَهُ وَهُوَ حَبِيب
النَّجَّار صَاحِب " يس " فَدَعَوْهُ إِلَى اللَّه وَقَالَا : نَحْنُ رَسُولَا
عِيسَى نَدْعُوك إِلَى عِبَادَة اللَّه . فَطَالَبَهُمَا بِالْمُعْجِزَةِ فَقَالَا
: نَحْنُ نَشْفِي الْمَرْضَى وَكَانَ لَهُ اِبْن مَجْنُون . وَقِيلَ : مَرِيض عَلَى
الْفِرَاش فَمَسَحَاهُ , فَقَامَ بِإِذْنِ اللَّه صَحِيحًا ; فَآمَنَ الرَّجُل
بِاَللَّهِ . وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة يَسْعَى ,
فَفَشَا أَمْرُهُمَا , وَشَفَيَا كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى , فَأَرْسَلَ الْمَلِك
إِلَيْهِمَا وَكَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَام يَسْتَخْبِرُهُمَا فَقَالَا : نَحْنُ
رَسُولَا عِيسَى . فَقَالَ : وَمَا آيَتُكُمَا ؟ قَالَا : نُبْرِئ الْأَكْمَهَ
وَالْأَبْرَص وَنُبْرِئ الْمَرِيض بِإِذْنِ اللَّه , وَنَدْعُوك إِلَى عِبَادَة
اللَّه وَحْدَهُ . فَهَمَّ الْمَلِك بِضَرْبِهِمَا . وَقَالَ وَهْب : حَبَسَهُمَا
الْمَلِك وَجَلَدَهُمَا مِائَة جَلْدَة ; فَانْتَهَى الْخَبَر إِلَى عِيسَى
فَأَرْسَلَ ثَالِثًا . قِيلَ : شَمْعُون الصَّفَا رَأْس الْحَوَارِيِّينَ
لِنَصْرِهِمَا , فَعَاشَرَ حَاشِيَة الْمَلِك حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهُمْ ,
وَاسْتَأْنَسُوا بِهِ , وَرَفَعُوا حَدِيثه إِلَى الْمَلِك فَأَنِسَ بِهِ ,
وَأَظْهَرَ مُوَافَقَتَهُ فِي دِينه , فَرَضِيَ الْمَلِك طَرِيقَتَهُ , ثُمَّ قَالَ
يَوْمًا لِلْمَلِكِ : بَلَغَنِي أَنَّك حَبَسْت رَجُلَيْنِ دَعَوَاك إِلَى اللَّه ,
فَلَوْ سَأَلْت عَنْهُمَا مَا وَرَاءَهُمَا . فَقَالَ : إِنَّ الْغَضَب حَالَ
بَيْنِي وَبَيْن سُؤَالِهِمَا . قَالَ : فَلَوْ أَحْضَرْتَهُمَا . فَأَمَرَ
بِذَلِكَ ; فَقَالَ لَهُمَا شَمْعُون : مَا بُرْهَانُكُمَا عَلَى مَا تَدَّعِيَانِ
؟ فَقَالَا : نُبْرِئ الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص . فَجِيءَ بِغُلَامٍ مَمْسُوحِ
الْعَيْنَيْنِ ; مَوْضِع عَيْنَيْهِ كَالْجَبْهَةِ , فَدَعَوَا رَبَّهُمَا
فَانْشَقَّ مَوْضِع الْبَصَر , فَأَخَذَا بُنْدُقَتَيْنِ طِينًا فَوَضَعَاهُمَا فِي
خَدَّيْهِ , فَصَارَتَا مُقْلَتَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا ; فَعَجِبَ الْمَلِك وَقَالَ
: إِنَّ هَاهُنَا غُلَامًا مَاتَ مُنْذُ سَبْعَة أَيَّام وَلَمْ أَدْفِنْهُ حَتَّى
يَجِيءَ أَبُوهُ فَهَلْ يُحْيِيهِ رَبُّكُمَا ؟ فَدَعَوَا اللَّه عَلَانِيَة ,
وَدَعَاهُ شَمْعُون سِرًّا , فَقَامَ الْمَيِّت حَيًّا , فَقَالَ لِلنَّاسِ :
إِنِّي مُتّ مُنْذُ سَبْعَة أَيَّام , فَوُجِدْتُ مُشْرِكًا , فَأُدْخِلْتُ فِي
سَبْعَة أَوْدِيَة مِنْ النَّار , فَأُحَذِّرُكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ فَآمِنُوا
بِاَللَّهِ , ثُمَّ فُتِحَتْ أَبْوَاب السَّمَاء , فَرَأَيْت شَابًّا حَسَنَ
الْوَجْه يَشْفَعُ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة شَمْعُون وَصَاحِبَيْهِ , حَتَّى
أَحْيَانِي اللَّه , وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ لَا
شَرِيك لَهُ , وَأَنَّ عِيسَى رُوح اللَّه وَكَلِمَتُهُ , وَأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ
رُسُل اللَّه . فَقَالُوا لَهُ وَهَذَا شَمْعُون أَيْضًا مَعَهُمْ ؟ فَقَالَ :
نَعَمْ وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ . فَأَعْلَمَهُمْ شَمْعُون أَنَّهُ رَسُول الْمَسِيح
إِلَيْهِمْ , فَأَثَّرَ قَوْله فِي الْمَلِك , فَدَعَاهُ إِلَى اللَّه , فَآمَنَ
الْمَلِك فِي قَوْم كَثِير وَكَفَرَ آخَرُونَ . وَحَكَى الْقُشَيْرِيّ أَنَّ
الْمَلِك آمَنَ وَلَمْ يُؤْمِنْ قَوْمه , وَصَاحَ جِبْرِيل صَيْحَة مَاتَ كُلّ مَنْ
بَقِيَ مِنْهُمْ مِنْ الْكُفَّار . وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ
يَذْهَبُوا إِلَى تِلْكَ الْقَرْيَة قَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه إِنَّا لَا
نَعْرِف أَنْ نَتَكَلَّم بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ . فَدَعَا اللَّه لَهُمْ
فَنَامُوا بِمَكَانِهِمْ , فَهَبُّوا مِنْ نَوْمَتهمْ قَدْ حَمَلَتْهُمْ
الْمَلَائِكَة فَأَلْقَتْهُمْ بِأَرْضِ أَنْطَاكِيَة , فَكَلَّمَ كُلّ وَاحِد
صَاحِبه بِلُغَةِ الْقَوْم ; فَذَلِكَ قَوْله : " وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس
" [ الْبَقَرَة : 87 ] فَقَالُوا جَمِيعًا : " إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ
"
تفسير
الطبري : إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ : وَقَوْله : { إِذْ أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَزْنَا بِثَالِثٍ } يَقُول تَعَالَى
ذِكْره : حِين أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اِثْنَيْنِ يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى اللَّه
فَكَذَّبُوهُمَا فَشَدَّدْنَاهُمَا بِثَالِثٍ , وَقَوَّيْنَاهُمَا بِهِ. وَبِنَحْوِ
الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
22255 حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا
عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء ,
جَمِيعًا عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَوْله : { فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ } قَالَ : شَدَّدْنَا 22256 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا
حَكَّام , عَنْ عَنْبَسَة , عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ الْقَاسِم
بْن أَبِي بَزَّة , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } قَالَ :
زِدْنَا 22257 حَدَّثَنَا يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ :
قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } قَالَ :
جَعَلْنَاهُمْ ثَلَاثَة , قَالَ : ذَلِكَ التَّعَزُّز , قَالَ : وَالتَّعَزُّز :
الْقُوَّة فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ
مُرْسَلُونَ : وَقَوْله : { فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ }
يَقُول : فَقَالَ الْمُرْسَلُونَ الثَّلَاثَة لِأَصْحَابِ الْقَرْيَة : إِنَّا
إِلَيْكُمْ أَيّهَا الْقَوْم مُرْسَلُونَ , بِأَنْ تُخْلِصُوا الْعِبَادَة لِلَّهِ
وَحْده , لَا شَرِيك لَهُ , وَتَتَبَرَّءُوا مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ الْآلِهَة
وَالْأَصْنَام . وَبِالتَّشْدِيدِ فِي قَوْله : { فَعَزَّزْنَا } قَرَأَتْ
الْقُرَّاء سِوَى عَاصِم , فَإِنَّهُ قَرَأَهُ بِالتَّخْفِيفِ , وَالْقِرَاءَة
عِنْدنَا بِالتَّشْدِيدِ , لِإِجْمَاعِ الْحُجَّة مِنْ الْقُرَّاء عَلَيْهِ ,
وَأَنَّ مَعْنَاهُ , إِذَا شُدِّدَ : فَقَوَّيْنَا , وَإِذَا خُفِّفَ : فَغَلَبْنَا
, وَلَيْسَ لَغَلَبْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِع كَثِير مَعْنًى.
تفسير
ابن كثير : " قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَر مِثْلنَا " أَيْ فَكَيْفَ أُوحِيَ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ بَشَر وَنَحْنُ بَشَر فَلِمَ لَا أُوحِيَ إِلَيْنَا
مِثْلكُمْ وَلَوْ كُنْتُمْ رُسُلًا لَكُنْتُمْ مَلَائِكَة وَهَذِهِ شُبْهَة كَثِير
مِنْ الْأُمَم الْمُكَذِّبَة كَمَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْله
عَزَّ وَجَلَّ " ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلهمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَقَالُوا أَبَشَر يَهْدُونَنَا " أَيْ اِسْتَعْجَبُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْكَرُوهُ
وَقَوْله تَعَالَى : " قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَر مِثْلنَا تُرِيدُونَ
أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُد آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِين "
وَقَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى " وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ
بَشَرًا مِثْلكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ " وَقَوْله تَعَالَى : " وَمَا
مَنَعَ النَّاس أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا
أَبَعَثَ اللَّه بَشَرًا رَسُولًا " .
تفسير
القرطبي : قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنَا تَأْكُلُونَ الطَّعَام وَتَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ : يَأْمُر بِهِ
وَلَا مِنْ شَيْء يَنْهَى عَنْهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
تَكْذِبُونَ فِي دَعْوَاكُمْ الرِّسَالَة ;
تفسير
الطبري : الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا مَا أَنْتُمْ
إِلَّا بَشَر مِثْلنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَن مِنْ شَيْء إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
تَكْذِبُونَ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : قَالَ أَصْحَاب الْقَرْيَة لِلثَّلَاثَةِ
الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ حِين أَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ أُرْسِلُوا
إِلَيْهِمْ بِمَا أُرْسِلُوا بِهِ : مَا أَنْتُمْ أَيّهَا الْقَوْم إِلَّا أُنَاس
مِثْلنَا , وَلَوْ كُنْتُمْ رُسُلًا كَمَا تَقُولُونَ , لَكُنْتُمْ مَلَائِكَة {
وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَن مِنْ شَيْء } يَقُول : قَالُوا : وَمَا أَنْزَلَ
الرَّحْمَن إِلَيْكُمْ مِنْ رِسَالَة وَلَا كِتَاب وَلَا أَمَرَكُمْ فِينَا
بِشَيْءٍ { إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ } فِي قِيلكُمْ إِنَّكُمْ إِلَيْنَا
مُرْسَلُونَ
تفسير
ابن كثير : وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ " مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَر
مِثْلنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَن مِنْ شَيْء إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ
قَالُوا رَبّنَا يَعْلَم إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ " أَيْ أَجَابَتْهُمْ
رُسُلهمْ الثَّلَاثَة قَائِلِينَ اللَّه يَعْلَم أَنَّا رُسُله إِلَيْكُمْ وَلَوْ
كُنَّا كَذَبَة عَلَيْهِ لَانْتَقَمَ مِنَّا أَشَدّ الِانْتِقَام وَلَكِنَّهُ
سَيُعِزُّنَا وَيَنْصُرنَا عَلَيْكُمْ وَسَتَعْلَمُونَ
لِمَنْ تَكُون
عَاقِبَة الدَّار كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ بَيْنِي
وَبَيْنكُمْ شَهِيدًا يَعْلَم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض وَاَلَّذِينَ
آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاَللَّهِ أُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ
".
تفسير
القرطبي : فَقَالَتْ الرُّسُل : " رَبُّنَا يَعْلَم إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ " وَإِنْ كَذَّبْتُمُونَا
تفسير
الطبري : { قَالُوا رَبّنَا يَعْلَم إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } يَقُول
: قَالَ الرُّسُل : رَبّنَا يَعْلَم إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ فِيمَا
دَعَوْنَاكُمْ إِلَيْهِ , وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
تفسير
ابن كثير : " وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبِين " يَقُولُونَ إِنَّمَا
عَلَيْنَا أَنْ نُبَلِّغكُمْ مَا أُرْسِلْنَا بِهِ إِلَيْكُمْ فَإِذَا أَطَعْتُمْ
كَانَتْ لَكُمْ السَّعَادَة فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى وَإِنْ لَمْ تُجِيبُوا
فَسَتَعْلَمُونَ غِبّ ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم .
تفسير
القرطبي : وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ فِي أَنَّ اللَّه وَاحِد
تفسير
الطبري : { وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبِين } يَقُول : وَمَا
عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُبَلِّغكُمْ رِسَالَة اللَّه الَّتِي أُرْسِلْنَا بِهَا
إِلَيْكُمْ بَلَاغًا يُبَيِّن لَكُمْ أَنَّا أَبْلَغْنَاكُمُوهَا , فَإِنْ
قَبِلْتُمُوهَا فَحَظّ أَنْفُسكُمْ تُصِيبُونَ , وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا فَقَدْ
أَدَّيْنَا مَا عَلَيْنَا , وَاَللَّه وَلِيّ الْحُكْم فِيهِ.
تفسير
ابن كثير : فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ أَهْل الْقَرْيَة " إِنَّا
تَطَيَّرْنَا بِكُمْ " أَيْ لَمْ نَرَ عَلَى وُجُوهكُمْ خَيْرًا فِي عَيْشنَا .
وَقَالَ قَتَادَة يَقُولُونَ إِنْ أَصَابَنَا شَرّ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلكُمْ
. وَقَالَ مُجَاهِد يَقُولُونَ لَمْ يَدْخُل مِثْلكُمْ إِلَى قَرْيَة إِلَّا
عُذِّبَ أَهْلهَا " لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ " قَالَ قَتَادَة
بِالْحِجَارَةِ وَقَالَ مُجَاهِد بِالشَّتْمِ " وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَاب
أَلِيم " أَيْ عُقُوبَة شَدِيدَة فَقَالَتْ لَهُمْ رُسُلهمْ .
تفسير
القرطبي : قَالُوا لَهُمْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ
أَيْ تَشَاءَمْنَا بِكُمْ . قَالَ مُقَاتِل : حُبِسَ عَنْهُمْ
الْمَطَر ثَلَاث سِنِينَ فَقَالُوا هَذَا بِشُؤْمِكُمْ . وَيُقَال : إِنَّهُمْ
أَقَامُوا يُنْذِرُونَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ . لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا عَنْ إِنْذَارِنَا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ قَالَ الْفَرَّاء : لَنَقْتُلَنَّكُمْ .
قَالَ : وَعَامَّة مَا فِي الْقُرْآن مِنْ الرَّجْم مَعْنَاهُ الْقَتْل . وَقَالَ
قَتَادَة : هُوَ عَلَى بَابِهِ مِنْ الرَّجْم بِالْحِجَارَةِ . وَقِيلَ :
لَنَشْتِمَنَّكُمْ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعه .
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قِيلَ : هُوَ
الْقَتْل . وَقِيلَ : هُوَ التَّعْذِيب الْمُؤْلِم . وَقِيلَ : هُوَ التَّعْذِيب
الْمُؤْلِم قَبْل الْقَتْل كَالسَّلْخِ وَالْقَطْع وَالصَّلْب .
تفسير
الطبري : الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذَاب أَلِيم } . يَقُول تَعَالَى ذِكْره : قَالَ أَصْحَاب الْقَرْيَة
لِلرُّسُلِ : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } يَعْنُونَ : إِنَّا تَشَاءَمْنَا
بِكُمْ , فَإِنْ أَصَابَنَا بَلَاء مِنْ أَجْلكُمْ , كَمَا : 22258 حَدَّثَنَا
بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { قَالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } قَالُوا : إِنَّ أَصَابَنَا شَرّ , فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
أَجْلكُمْ وَقَوْله : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } يَقُول :
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَمَّا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّكُمْ أُرْسِلْتُمْ إِلَيْنَا
بِالْبَرَاءَةِ مِنْ آلِهَتنَا , وَالنَّهْي عَنْ عِبَادَتنَا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ,
قِيلَ : عَنَى بِذَلِكَ لَنَرْجُمَنَّكُمْ بِالْحِجَارَةِ . ذِكْر مَنْ قَالَ
ذَلِكَ : 22259 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ ثنا سَعِيد , عَنْ
قَتَادَة { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } بِالْحِجَارَةِ {
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَاب أَلِيم } يَقُول : وَلِيَنَالَنكُمْ مِنَّا
عَذَاب مُوجِع
تفسير
ابن كثير : " طَائِركُمْ مَعَكُمْ " أَيْ مَرْدُود عَلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى فِي قَوْم فِرْعَوْن " فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَة قَالُوا لَنَا
هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا
إِنَّمَا طَائِرهمْ عِنْد اللَّه " وَقَالَ قَوْم صَالِح " اِطَّيَّرْنَا بِك
وَبِمَنْ مَعَك قَالَ طَائِركُمْ عِنْد اللَّه " وَقَالَ قَتَادَة وَوَهْب بْن
مُنَبِّه أَيْ أَعْمَالكُمْ مَعَكُمْ . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ" وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَة يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْد اللَّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة يَقُولُوا
هَذِهِ مِنْ عِنْدك قُلْ كُلّ مِنْ عِنْد اللَّه فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا " وَقَوْله تَعَالَى : " أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْم مُسْرِفُونَ " أَيْ مِنْ أَجْل أَنَّا ذَكَّرْنَاكُمْ
وَأَمَرْنَاكُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّه وَإِخْلَاص الْعِبَادَة لَهُ قَابَلْتُمُونَا
بِهَذَا الْكَلَام وَتَوَعَّدْتُمُونَا وَتَهَدَّدْتُمُونَا بَلْ أَنْتُمْ قَوْم
مُسْرِفُونَ . وَقَالَ قَتَادَة أَيْ إِنْ ذَكَّرْنَاكُمْ بِاَللَّهِ تَطَيَّرْتُمْ
مِنَّا بَلْ أَنْتُمْ قَوْم مُسْرِفُونَ .
تفسير
القرطبي : قَالُوا طَائِرُكُمْ
مَعَكُمْ فَقَالَتْ الرُّسُل : " طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ " أَيْ شُؤْمُكُمْ
مَعَكُمْ أَيْ حَظُّكُمْ مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ مَعَكُمْ وَلَازِم فِي
أَعْنَاقكُمْ , وَلَيْسَ هُوَ مِنْ شُؤْمِنَا ; قَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاك .
وَقَالَ قَتَادَة : أَعْمَالكُمْ مَعَكُمْ . اِبْن عَبَّاس : مَعْنَاهُ الْأَرْزَاق
وَالْأَقْدَار تَتْبَعُكُمْ . الْفَرَّاء : " طَائِركُمْ مَعَكُمْ " رِزْقكُمْ
وَعَمَلُكُمْ ; وَالْمَعْنَى وَاحِد . وَقَرَأَ الْحَسَن : " اِطَّيْرُكُمْ " أَيْ
تَطَيُّركُمْ .
أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ قَالَ قَتَادَة : إِنْ ذُكِّرْتُمْ تَطَيَّرْتُمْ . وَفِيهِ تِسْعَة
أَوْجُه مِنْ الْقِرَاءَات : قَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة : " أَيِنْ ذُكِّرْتُمْ "
بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَة الثَّانِيَة . وَقَرَأَ أَهْل الْكُوفَة : " أَإِنْ "
بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ . وَالْوَجْه الثَّالِث : " أَاإِنْ ذُكِّرْتُمْ "
بِهَمْزَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِف أُدْخِلَتْ الْأَلِف كَرَاهَةً لِلْجَمْعِ بَيْن
الْهَمْزَتَيْنِ . وَالْوَجْه الرَّابِع : " أَايِنْ " بِهَمْزَةٍ بَعْدهَا أَلِف
وَبَعْد الْأَلْف هَمْزَة مُخَفَّفَة . وَالْقِرَاءَة الْخَامِسَة " أَاأَنْ "
بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنهمَا أَلِف . وَالْوَجْه السَّادِس : " أَأَنْ
" بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ . وَحَكَى الْفَرَّاء : أَنَّ
هَذِهِ الْقِرَاءَة قِرَاءَة أَبِي رَزِين . قُلْت : وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ عَنْ
زِرِّ بْن حُبَيْش وَابْن السَّمَيْقَع . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر وَالْحَسَن
الْبَصْرِيّ : " قَالُوا طَائِركُمْ مَعَكُمْ أَيْنَ ذُكِّرْتُمْ " بِمَعْنَى
حَيْثُ . وَقَرَأَ يَزِيد بْن الْقَعْقَاع وَالْحَسَن وَطَلْحَة " ذُكِرْتُمْ "
بِالتَّخْفِيفِ ; ذَكَرَ جَمِيعَهُ النَّحَّاسُ . وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ عَنْ
طَلْحَة بْن مُصَرِّف وَعِيسَى الْهَمْدَانِيّ : " آنْ ذُكِّرْتُمْ " بِالْمَدِّ ,
عَلَى أَنَّ هَمْزَة الِاسْتِفْهَام دَخَلَتْ عَلَى هَمْزَة مَفْتُوحَة .
الْمَاجِشُون : " أَنْ ذُكِّرْتُمْ " بِهَمْزَةٍ وَاحِدَة مَفْتُوحَة . فَهَذِهِ
تِسْع قِرَاءَات . وَقَرَأَ اِبْن هُرْمُز " طَيْرُكُمْ مَعَكُمْ " . " أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ " أَيْ لَإِنْ وُعِظْتُمْ ; وَهُوَ كَلَام مُسْتَأْنَفٌ , أَيْ إِنْ
وُعِظْتُمْ تَطَيَّرْتُمْ . وَقِيلَ : إِنَّمَا تَطَيَّرُوا لِمَا بَلَغَهُمْ أَنَّ
كُلّ نَبِيّ دَعَا قَوْمه فَلَمْ يُجِيبُوهُ كَانَ عَاقِبَتهمْ الْهَلَاك
.
بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ قَالَ قَتَادَة :
مُسْرِفُونَ فِي تَطَيُّركُمْ . يَحْيَى بْن سَلَّام : مُسْرِفُونَ فِي كُفْركُمْ .
وَقَالَ اِبْن بَحْر : السَّرَف هَاهُنَا الْفَسَاد , وَمَعْنَاهُ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْم مُفْسِدُونَ . وَقِيلَ : مُسْرِفُونَ مُشْرِكُونَ , وَالْإِسْرَاف مُجَاوَزَة
الْحَدّ , وَالْمُشْرِك يُجَاوِز الْحَدّ .
تفسير
الطبري : الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا طَائِرُكُمْ
مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْم مُسْرِفُونَ } يَقُول تَعَالَى
ذِكْره : قَالَتْ الرُّسُل لِأَصْحَابِ الْقَرْيَة : { طَائِركُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ } يَقُولُونَ : أَعْمَالكُمْ وَأَرْزَاقكُمْ وَحَظّكُمْ مِنْ الْخَيْر
وَالشَّرّ مَعَكُمْ , ذَلِكَ كُلّه فِي أَعْنَاقكُمْ , وَمَا ذَلِكَ مِنْ شُؤْمنَا
إِنْ أَصَابَكُمْ سُوء فِيمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ , وَسُبِقَ لَكُمْ مِنْ اللَّه .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ
ذَلِكَ : 22260 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد ,
عَنْ قَتَادَة , { قَالُوا طَائِركُمْ مَعَكُمْ } : أَيْ أَعْمَالكُمْ مَعَكُمْ
22261 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق
فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَعَنْ كَعْب وَعَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه ,
قَالَتْ لَهُمْ الرُّسُل : { طَائِركُمْ مَعَكُمْ } : أَيْ أَعْمَالكُمْ مَعَكُمْ
وَقَوْله : { أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ } اِخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة ذَلِكَ ,
فَقَرَأَتْهُ عَامَّة قُرَّاء الْأَمْصَار { أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ } بِكَسْرِ
الْأَلِف مِنْ " إِنَّ " وَفَتْح أَلْف الِاسْتِفْهَام : بِمَعْنَى إِنْ
ذَكَّرْنَاكُمْ فَمَعَكُمْ طَائِركُمْ , ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَى " إِنَّ " الَّتِي
هِيَ حَرْف جَزَاء أَلِف اِسْتِفْهَام فِي قَوْل بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة ,
وَفِي قَوْل بَعْض الْكُوفِيِّينَ مَنْوِيّ بِهِ التَّكْرِير , كَأَنَّهُ قِيلَ :
طَائِركُمْ مَعَكُمْ إِنْ ذُكِّرْتُمْ فَمَعَكُمْ طَائِركُمْ , فَحَذَفَ الْجَوَاب
اِكْتِفَاء بِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا أَنْكَرَ قَائِل هَذَا
الْقَوْل الْقَوْل الْأَوَّل , لِأَنَّ أَلِف الِاسْتِفْهَام قَدْ حَالَتْ بَيْن
الْجَزَاء وَبَيْن الشَّرْط , فَلَا تَكُون شَرْطًا لِمَا قَبْل حَرْف
الِاسْتِفْهَام . وَذُكِرَ عَنْ أَبِي رَزِين أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ : { أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ } بِمَعْنَى : أَلِأَنْ ذُكِّرْتُمْ طَائِركُمْ مَعَكُمْ ؟ . وَذُكِرَ
عَنْ بَعْض قَارِئِيهِ أَنَّهُ قَرَأَهُ : " قَالُوا طَائِركُمْ مَعَكُمْ أَيْنَ
ذُكِرْتُمْ " بِمَعْنَى : حَيْثُ ذُكِرْتُمْ بِتَخْفِيفِ الْكَاف مِنْ ذُكِرْتُمْ .
وَالْقِرَاءَة الَّتِي لَا نُجِيز الْقِرَاءَة بِغَيْرِهَا الْقِرَاءَة الَّتِي
عَلَيْهَا قُرَّاء الْأَمْصَار , وَهِيَ دُخُول أَلِف الِاسْتِفْهَام عَلَى حَرْف
الْجَزَاء , وَتَشْدِيد الْكَاف عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ
قَارِئِيهِ كَذَلِكَ , لِإِجْمَاعِ الْحُجَّة مِنْ الْقُرَّاء عَلَيْهِ .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ
ذَلِكَ : 22262 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد ,
عَنْ قَتَادَة { أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ } : أَيْ إِنْ ذَكَّرْنَاكُمْ اللَّه
تَطَيَّرْتُمْ بِنَا ؟ { بَلْ أَنْتُمْ قَوْم مُسْرِفُونَ } وَقَوْله : { بَلْ
أَنْتُمْ قَوْم مُسْرِفُونَ } يَقُول : قَالُوا لَهُمْ : مَا بِكُمْ التَّطَيُّر
بِنَا , وَلَكِنَّكُمْ قَوْم أَهْل مَعَاصٍ لِلَّهِ وَآثَام , قَدْ غَلَبَتْ
عَلَيْكُمْ الذُّنُوب وَالْآثَام .
تفسير
ابن كثير : قَالَ اِبْن إِسْحَاق فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ
اللَّه عَنْهُمَا وَكَعْب الْأَحْبَار وَوَهْب بْن مُنَبِّه أَنَّ أَهْل الْقَرْيَة
هَمُّوا بِقَتْلِ رُسُلهمْ فَجَاءَهُمْ رَجُل مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة يَسْعَى
أَيْ لِيَنْصُرهُمْ مِنْ قَوْمه قَالُوا وَهُوَ حَبِيب وَكَانَ يَعْمَل الْحَرِير
وَهُوَ الْحَيَّاك وَكَانَ رَجُلًا سَقِيمًا قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ الْجُذَام وَكَانَ
كَثِير الصَّدَقَة يَتَصَدَّق بِنِصْفِ كَسْبه مُسْتَقِيم الْفِطْرَة وَقَالَ اِبْن
إِسْحَاق عَنْ رَجُل سَمَّاهُ عَنْ الْحَكَم عَنْ مِقْسَم أَوْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن
عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ اِسْم صَاحِب يس حَبِيب وَكَانَ الْجُذَام
قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ . وَقَالَ الثَّوْرِيّ عَنْ عَاصِم الْأَحْوَل عَنْ أَبِي
مِجْلَز كَانَ اِسْمه حَبِيب بْن سَرِيّ وَقَالَ شَبِيب بْن بِشْر عَنْ عِكْرِمَة
عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ اِسْم صَاحِب يس حَبِيب
النَّجَّار فَقَتَلَهُ قَوْمه وَقَالَ السُّدِّيّ كَانَ قَصَّارًا وَقَالَ عُمَر
بْن الْحَكَم كَانَ إِسْكَافًا وَقَالَ قَتَادَة كَانَ يَتَعَبَّد فِي غَار هُنَاكَ
" قَالَ يَا قَوْم اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ " يَحُضّ قَوْمه عَلَى اِتِّبَاع
الرُّسُل الَّذِينَ أَتَوْهُمْ . اتَّبِعُوا مَنْ لَا
يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ : " اِتَّبِعُوا مَنْ لَا
يَسْأَلكُمْ أَجْرًا " أَيْ عَلَى إِبْلَاغ الرِّسَالَة " وَهُمْ مُهْتَدُونَ "
فِيمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَة اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ
.
تفسير القرطبي : وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ
يَسْعَى
هُوَ حَبِيب بْن مُرِّيّ وَكَانَ نَجَّارًا . وَقِيلَ : إِسْكَافًا .
وَقِيلَ : قَصَّارًا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَمُقَاتِل : هُوَ حَبِيب
بْن إِسْرَائِيل النَّجَّار وَكَانَ يَنْحِت الْأَصْنَام , وَهُوَ مِمَّنْ آمَنَ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمَا سِتُّمِائَةِ سَنَة ,
كَمَا آمَنَ بِهِ تُبَّعٌ الْأَكْبَر وَوَرَقَة بْن نَوْفَل وَغَيْرهمَا . وَلَمْ
يُؤْمِن بِنَبِيٍّ أَحَد إِلَّا بَعْد ظُهُوره . قَالَ وَهْب : وَكَانَ حَبِيب
مَجْذُومًا , وَمَنْزِله عِنْد أَقْصَى بَاب مِنْ أَبْوَاب الْمَدِينَة , وَكَانَ
يَعْكُف عَلَى عِبَادَة الْأَصْنَام سَبْعِينَ سَنَة يَدْعُوهُمْ , لَعَلَّهُمْ
يَرْحَمُونَهُ وَيَكْشِفُونَ ضُرَّهُ فَمَا اِسْتَجَابُوا لَهُ , فَلَمَّا أَبْصَرَ
الرُّسُل دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَة اللَّه فَقَالَ : هَلْ مِنْ آيَة ؟ قَالُوا :
نَعَمْ , نَدْعُو رَبّنَا الْقَادِر فَيُفَرِّج عَنْك مَا بِك . فَقَالَ : إِنَّ
هَذَا لَعَجَب ! أَدْعُو هَذِهِ الْآلِهَة سَبْعِينَ سَنَة تُفَرِّج عَنِّي فَلَمْ
تَسْتَطِعْ , فَكَيْف يُفَرِّجُهُ رَبُّكُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَة ؟ قَالُوا :
نَعَمْ , رَبُّنَا عَلَى مَا يَشَاء قَدِير , وَهَذِهِ لَا تَنْفَع شَيْئًا وَلَا
تَضُرّ . فَآمَنَ وَدَعَوَا رَبَّهُمْ فَكَشَفَ اللَّه مَا بِهِ , كَأَنْ لَمْ
يَكُنْ بِهِ بَأْس , فَحِينَئِذٍ أَقْبَلَ عَلَى التَّكَسُّب , فَإِذَا أَمْسَى
تَصَدَّقَ بِكَسْبِهِ , فَأَطْعَمَ عِيَالَهُ نِصْفًا وَتَصَدَّقَ بِنِصْفٍ ,
فَلَمَّا هَمَّ قَوْمه بِقَتْلِ الرُّسُل جَاءَهُمْ . فَـ " قَالَ يَا قَوْم
اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ "
قَالَ
يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا قَالَ
قَتَادَة : كَانَ يَعْبُد اللَّه فِي غَار , فَلَمَّا سَمِعَ بِخَبَرِ
الْمُرْسَلِينَ جَاءَ يَسْعَى , فَقَالَ لِلْمُرْسَلِينَ : أَتَطْلُبُونَ عَلَى مَا
جِئْتُمْ بِهِ أَجْرًا ؟ قَالُوا : لَا مَا أَجْرُنَا إِلَّا عَلَى اللَّه . قَالَ
أَبُو الْعَالِيَة : فَاعْتَقَدَ صِدْقَهُمْ وَآمَنَ بِهِمْ وَأَقْبَلَ عَلَى
قَوْمه ف " قَالَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ " .
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا أَيْ لَوْ كَانُوا
مُتَّهَمِينَ لَطَلَبُوا مِنْكُمْ الْمَال
وَهُمْ
مُهْتَدُونَ فَاهْتَدُوا بِهِمْ .
تفسير
الطبري : وَجَاءَ
مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ
اتَّبِعُوا
وَقَوْله : { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة رَجُل يَسْعَى } يَقُول
: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى مَدِينَة هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذِينَ أُرْسِلَتْ
إِلَيْهِمْ هَذِهِ الرُّسُل رَجُل يَسْعَى إِلَيْهِمْ ; وَذَلِكَ أَنَّ أَهْل
الْمَدِينَة هَذِهِ عَزَمُوا , وَاجْتَمَعَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى قَتْل هَؤُلَاءِ
الرُّسُل الثَّلَاثَة فِيمَا ذُكِرَ , فَبَلَغَ ذَلِكَ هَذَا الرَّجُل , وَكَانَ
مَنْزِله أَقْصَى الْمَدِينَة , وَكَانَ مُؤْمِنًا , وَكَانَ اِسْمه فِيمَا ذُكِرَ
" حَبِيب بْن مُرِّيّ " . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَتْ
الْأَخْبَار. ذِكْر الْأَخْبَار الْوَارِدَة بِذَلِكَ : 22263 حَدَّثَنَا مُحَمَّد
بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا مُؤَمِّل بْن إِسْمَاعِيل , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ
عَاصِم الْأَحْوَل , عَنْ أَبِي مِجْلَز , قَالَ : كَانَ صَاحِب يس " حَبِيب بْن
مُرِّيّ " 22264 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : كَانَ
مِنْ حَدِيث صَاحِب يس فِيمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِيمَا بَلَغَهُ ,
عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَعَنْ كَعْب الْأَحْبَار وَعَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه
الْيَمَانِيّ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْل أَنْطَاكِيَة , وَكَانَ اِسْمه "
حَبِيبًا " , وَكَانَ يَعْمَل الْجَرِير , وَكَانَ رَجُلًا سَقِيمًا , قَدْ
أَسْرَعَ فِيهِ الْجُذَام , وَكَانَ مَنْزِله عِنْد بَاب مِنْ أَبْوَاب الْمَدِينَة
قَاصِيًا , وَكَانَ مُؤْمِنًا ذَا صَدَقَة , يَجْمَع كَسْبه إِذَا أَمْسَى فِيمَا
يَذْكُرُونَ , فَيَقْسِمهُ نِصْفَيْنِ , فَيُطْعِم نِصْفًا عِيَاله , وَيَتَصَدَّق
بِنِصْفِ , فَلَمْ يُهِمّهُ سَقَمه وَلَا عَمَله وَلَا ضَعْفه , عَنْ عَمَل رَبّه ,
قَالَ : فَلَمَّا أَجْمَعَ قَوْمه عَلَى قَتْل الرُّسُل , بَلَغَ ذَلِكَ حَبِيبًا
وَهُوَ عَلَى بَاب الْمَدِينَة الْأَقْصَى , فَجَاءَ يَسْعَى إِلَيْهِمْ
يُذَكِّرهُمْ بِاَللَّهِ , وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اِتِّبَاع الْمُرْسَلِينَ , فَقَالَ
: { يَا قَوْم اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } 22265 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد ,
قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق , عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبْد
الرَّحْمَن بْن مَعْمَر بْن عَمْرو بْن حَزْم أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ كَعْب
الْأَحْبَار قَالَ : ذُكِرَ لَهُ حَبِيب بْن زَيْد بْن عَاصِم أَخُو بَنِي مَازِن
بْن النَّجَّار الَّذِي كَانَ مُسَيْلِمَة الْكَذَّاب قَطَعَهُ بِالْيَمَامَةِ حِين
جَعَلَ يَسْأَلهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجَعَلَ
يَقُول : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه ؟ فَيَقُول : نَعَمْ , ثُمَّ
يَقُول : أَتَشْهَد أَنِّي رَسُول اللَّه ؟ فَيَقُول لَهُ : لَا أَسْمَع , فَيَقُول
مُسَيْلِمَة : أَتَسْمَعُ هَذَا , وَلَا تَسْمَع هَذَا ؟ فَيَقُول : نَعَمْ ,
فَجَعَلَ يَقْطَعهُ عُضْوًا عُضْوًا , كُلَّمَا سَأَلَهُ لَمْ يَزِدْهُ عَلَى
ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ فِي يَدَيْهِ . قَالَ كَعْب حِين قِيلَ لَهُ اِسْمه حَبِيب :
وَكَانَ وَاَللَّه صَاحِب يس اِسْمه حَبِيب 22266 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد ,
قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق , عَنْ الْحَسَن بْن عُمَارَة , عَنْ
الْحَكَم بْن عُتَيْبَة , عَنْ مِقْسَم أَبِي الْقَاسِم مَوْلَى عَبْد اللَّه بْن
الْحَارِث بْن نَوْفَل , عَنْ مُجَاهِد , عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَنَّهُ
كَانَ يَقُول : كَانَ اِسْم صَاحِب يس حَبِيبًا , وَكَانَ الْجُذَام قَدْ أَسْرَعَ
فِيهِ 22267 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ
قَتَادَة , قَوْله : { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة رَجُل يَسْعَى } قَالَ :
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ اِسْمه حَبِيب , وَكَانَ فِي غَار يَعْبُد رَبّه , فَلَمَّا
سَمِعَ بِهِمْ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ وَقَوْله : { قَالَ يَا قَوْم اِتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : قَالَ الرَّجُل الَّذِي جَاءَ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَة لِقَوْمِهِ : يَا قَوْم اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ
أَرْسَلَهُمْ اللَّه إِلَيْكُمْ , وَاقْبَلُوا مِنْهُمْ مَا أَتَوْكُمْ بِهِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ لَمَّا أَتَى الرُّسُل سَأَلَهُمْ : هَلْ يَطْلُبُونَ عَلَى مَا
جَاءُوا بِهِ أَجْرًا ؟ فَقَالَتْ الرُّسُل : لَا , فَقَالَ لِقَوْمِهِ حِينَئِذٍ :
اِتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلكُمْ عَلَى نَصِيحَتهمْ لَكُمْ أَجْرًا. ذِكْر مَنْ
قَالَ ذَلِكَ : 22268 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا
سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَالَ : لَمَّا اِنْتَهَى إِلَيْهِمْ , يَعْنِي إِلَى
الرُّسُل , قَالَ : هَلْ تَسْأَلُونَ عَلَى هَذَا مِنْ أَجْر ؟ قَالُوا : لَا ,
فَقَالَ عِنْد ذَلِكَ : { يَا قَوْم اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اِتَّبِعُوا مَنْ
لَا يَسْأَلكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } 22269 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد ,
قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق فِيمَا بَلَغَهُ , عَنْ اِبْن عَبَّاس ,
وَعَنْ كَعْب الْأَحْبَار , وَعَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ
مُهْتَدُونَ { اِتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } :
أَيْ لَا يَسْأَلُونَكُمْ أَمْوَالكُمْ عَلَى مَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنْ الْهُدَى ,
وَهُمْ لَكُمْ نَاصِحُونَ , فَاتَّبِعُوهُمْ تَهْتَدُوا بِهُدَاهُمْ وَقَوْله : {
وَهُمْ مُهْتَدُونَ } يَقُول : وَهُمْ عَلَى اِسْتِقَامَة مِنْ طَرِيق الْحَقّ ,
فَاهْتَدُوا أَيّهَا الْقَوْم بِهُدَاهُمْ .
تفسير
ابن كثير : " اِتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلكُمْ أَجْرًا " أَيْ عَلَى إِبْلَاغ
الرِّسَالَة " وَهُمْ مُهْتَدُونَ " فِيمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَة
اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ .
تفسير
القرطبي : اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا أَيْ لَوْ كَانُوا
مُتَّهَمِينَ لَطَلَبُوا مِنْكُمْ الْمَال
وَهُمْ
مُهْتَدُونَ فَاهْتَدُوا بِهِمْ .
تفسير
الطبري : { اِتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } :
أَيْ لَا يَسْأَلُونَكُمْ أَمْوَالكُمْ عَلَى مَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنْ الْهُدَى ,
وَهُمْ لَكُمْ نَاصِحُونَ , فَاتَّبِعُوهُمْ تَهْتَدُوا بِهُدَاهُمْ وَقَوْله : {
وَهُمْ مُهْتَدُونَ } يَقُول : وَهُمْ عَلَى اِسْتِقَامَة مِنْ طَرِيق الْحَقّ ,
فَاهْتَدُوا أَيّهَا الْقَوْم بِهُدَاهُمْ .
تفسير
ابن كثير : " وَمَا لِيَ لَا أَعْبُد الَّذِي فَطَرَنِي " أَيْ وَمَا يَمْنَعنِي
مِنْ إِخْلَاص الْعِبَادَة لِلَّذِي خَلَقَنِي وَحْده لَا شَرِيك لَهُ " وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ " أَيْ يَوْم الْمَعَاد فَيُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالكُمْ إِنْ
خَيْرًا فَخَيْر وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ .
تفسير
القرطبي : قَالَ قَتَادَة :
قَالَ لَهُ قَوْمه أَنْتَ عَلَى دِينهمْ ؟ ! فَقَالَ : " وَمَا لِيَ لَا أَعْبُد
الَّذِي فَطَرَنِي " أَيْ خَلَقَنِي . وَهَذَا اِحْتِجَاج مِنْهُ عَلَيْهِمْ .
وَأَضَافَ الْفِطْرَة إِلَى نَفْسه ; لِأَنَّ ذَلِكَ نِعْمَة عَلَيْهِ تُوجِب
الشُّكْر , وَالْبَعْث إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ وَعِيد يَقْتَضِي الزَّجْر ;
فَكَانَ إِضَافَة النِّعْمَة إِلَى نَفْسه أَظْهَرَ شُكْرًا , وَإِضَافَة الْبَعْثِ
إِلَى الْكَافِر أَبْلَغ أَثَرًا .
تفسير
الطبري : الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُد
الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره مُخْبِرًا عَنْ
قِيل هَذَا الرَّجُل الْمُؤْمِن { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُد الَّذِي فَطَرَنِي } :
أَيْ وَأَيّ شَيْء لِي لَا أَعْبُد الرَّبّ الَّذِي خَلَقَنِي { وَإِلَيْهِ }
يَقُول : وَإِلَيْهِ تَصِيرُونَ أَنْتُمْ أَيّهَا الْقَوْم وَتَرُدُّونَ جَمِيعًا ,
وَهَذَا حِين أَبْدَى لِقَوْمِهِ إِيمَانه بِاَللَّهِ وَتَوْحِيده , كَمَا : 22270
حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق فِيمَا
بَلَغَهُ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَعَنْ كَعْب الْأَحْبَار , وَعَنْ وَهْب بْن
مُنَبِّه قَالَ : نَادَاهُمْ , يَعْنِي نَادَى قَوْمه بِخِلَافِ مَا هُمْ عَلَيْهِ
مِنْ عِبَادَة الْأَصْنَام , وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينه وَعِبَادَة رَبّه ,
وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَمْلِك نَفْعه وَلَا ضُرّه غَيْره , فَقَالَ : { وَمَا
لِيَ لَا أَعْبُد الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونه
آلِهَة } ثُمَّ عَابَهَا , فَقَالَ : { إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ }
وَشِدَّة { لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتهمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونَ
}
تفسير
ابن كثير : " أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونه آلِهَة " اِسْتِفْهَام إِنْكَار وَتَوْبِيخ
وَتَقْرِيع " إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتهمْ
شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ " أَيْ هَذِهِ الْآلِهَة الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ
دُونه لَا يَمْلِكُونَ مِنْ الْأَمْر شَيْئًا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَوْ
أَرَادَنِي بِسُوءٍ " فَلَا كَاشِف لَهُ إِلَّا هُوَ " وَهَذِهِ الْأَصْنَام لَا
تَمْلِك دَفْع ذَلِكَ وَلَا مَنْعه وَلَا يُنْقِذُونَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ
.
الطبري : وَقَوْله : {
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونه آلِهَة } يَقُول : أَأَعْبُدُ مِنْ دُون اللَّه آلِهَة ,
يَعْنِي مَعْبُودًا سِوَاهُ { إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ } يَقُول : إِذْ
مَسَّنِي الرَّحْمَن بِضُرٍّ وَشِدَّة { لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتهمْ شَيْئًا }
يَقُول : لَا تُغْنِي عَنِّي شَيْئًا بِكَوْنِهَا إِلَيَّ شُفَعَاء , وَلَا تَقْدِر
عَلَى دَفْع ذَلِكَ الضُّرّ عَنِّي { وَلَا يُنْقِذُونَ } يَقُول : وَلَا
يُخَلِّصُونِي مِنْ ذَلِكَ الضُّرّ إِذَا مَسَّنِي .
تفسير ابن كثير : "
إنِّي إِذًا لَفِي ضَلَال مُبِين " أَيْ إِنْ اِتَّخَذْتهَا آلِهَة مِنْ دُون
اللَّه .
تفسير
القرطبي إِنِّي إِذًا يَعْنِي
إِنْ فَعَلْت ذَلِكَ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أَيْ
خُسْرَان ظَاهِر .
تفسير
الطبري : وَقَوْله : { إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَال مُبِين } يَقُول : { إِنِّي
} إِنْ اِتَّخَذْت مِنْ دُون اللَّه آلِهَة هَذِهِ صِفَتهَا { إِذَنْ لَفِي ضَلَال
مُبِين } لِمَنْ تَأَمَّلَهُ , جَوْره عَنْ سَبِيل الْحَقّ .
ابن
كثير وَقَوْله تَعَالَى : " إِنِّي آمَنْت بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ " قَالَ
اِبْن إِسْحَاق فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا
وَكَعْب وَوَهْب يَقُول لِقَوْمِهِ " إِنِّي آمَنْت بِرَبِّكُمْ " الَّذِي
كَفَرْتُمْ بِهِ " فَاسْمَعُونِ " أَيْ فَاسْمَعُوا قَوْلِي وَيَحْتَمِل أَنْ
يَكُون خِطَابه لِلرُّسُلِ بِقَوْلِهِ " إِنِّي آمَنْت بِرَبِّكُمْ " أَيْ الَّذِي
أَرْسَلَكُمْ " فَاسْمَعُونِ " أَيْ فَاشْهَدُوا لِي بِذَلِكَ عِنْده وَقَدْ
حَكَاهُ اِبْن جَرِير فَقَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ خَاطَبَ بِذَلِكَ الرُّسُل
وَقَالَ لَهُمْ اِسْمَعُوا قَوْلِي لِتَشْهَدُوا لِي بِمَا أَقُول لَكُمْ عِنْد
رَبِّي إنِّي آمَنْت بِرَبِّكُمْ وَاتَّبَعْتُكُمْ وَهَذَا الْقَوْل الَّذِي
حَكَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ أَظْهَر فِي الْمَعْنَى وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ اِبْن
إِسْحَاق فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَكَعْب
وَوَهْب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَثْبَة
رَجُل وَاحِد فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَد يَمْنَع عَنْهُ وَقَالَ
قَتَادَة جَعَلُوا يَرْجُمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ يَقُول اللَّهُمَّ اِهْدِ
قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَقْعَصُوهُ
وَهُوَ يَقُول كَذَلِكَ فَقَتَلُوهُ رَحِمَهُ اللَّه .
تفسير
القرطبي : قَالَ اِبْن مَسْعُود : خَاطَبَ الرُّسُل بِأَنَّهُ مُؤْمِن
بِاَللَّهِ رَبّهمْ . وَمَعْنَى " فَاسْمَعُونِ " أَيْ فَاشْهَدُوا , أَيْ كُونُوا
شُهُودِي بِالْإِيمَانِ . وَقَالَ كَعْب وَوَهْب : إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ
لِقَوْمِهِ إِنِّي آمَنْت بِرَبِّكُمْ الَّذِي كَفَرْتُمْ بِهِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ
لَمَّا قَالَ لِقَوْمِهِ " اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ . اِتَّبِعُوا مَنْ لَا
يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا " رَفَعُوهُ إِلَى الْمَلِك وَقَالُوا : قَدْ تَبِعْت
عَدُوَّنَا ; فَطَوَّلَ مَعَهُمْ الْكَلَام لِيَشْغَلهُمْ بِذَلِكَ عَنْ قَتْل
الرُّسُل , إِلَى أَنْ قَالَ : " إِنِّي آمَنْت بِرَبِّكُمْ " فَوَثَبُوا عَلَيْهِ
فَقَتَلُوهُ . قَالَ اِبْن مَسْعُود : وَطَئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَ
قَصَبُهُ مِنْ دُبُرِهِ , وَأُلْقِيَ فِي بِئْر وَهِيَ الرَّسّ وَهُمْ أَصْحَاب
الرَّسّ . وَفِي رِوَايَة أَنَّهُمْ قَتَلُوا الرُّسُل الثَّلَاثَة . وَقَالَ
السُّدِّيّ : رَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ يَقُول : اللَّهُمَّ اِهْدِ قَوْمِي
حَتَّى قَتَلُوهُ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : حَفَرُوا حُفْرَة وَجَعَلُوهُ فِيهَا ,
وَرَدَمُوا فَوْقه التُّرَاب فَمَاتَ رَدْمًا . وَقَالَ الْحَسَن : حَرَّقُوهُ
حَرْقًا , وَعَلَّقُوهُ مِنْ سُور الْمَدِينَة وَقَبْره فِي سُور أَنْطَاكِيَة ;
حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ .
تفسير
الطبري : وَقَوْله : { إِنِّي آمَنْت بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } فَاخْتُلِفَ
فِي مَعْنَى ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : قَالَ هَذَا الْقَوْل هَذَا الْمُؤْمِن
لِقَوْمِهِ يُعَلِّمهُمْ إِيمَانه بِاَللَّهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22271
حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق فِيمَا
بَلَغَهُ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَعَنْ كَعْب , وَعَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه {
إِنِّي آمَنْت بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } إِنِّي آمَنْت بِرَبِّكُمْ الَّذِي
كَفَرْتُمْ بِهِ , فَاسْمَعُوا قَوْلِي وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ خَاطَبَ بِذَلِكَ
الرُّسُل , وَقَالَ لَهُمْ : اِسْمَعُوا قَوْلِي لِتَشْهَدُوا لِي بِمَا أَقُول
لَكُمْ عِنْد رَبِّي , وَأَنِّي قَدْ آمَنْت بِكُمْ وَاتَّبَعْتُكُمْ ; فَذَكَرَ
أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذَا الْقَوْل , وَنَصَحَ لِقَوْمِهِ النَّصِيحَة الَّتِي
ذَكَرَهَا اللَّه فِي كِتَابه وَثَبُوا بِهِ فَقَتَلُوهُ . ثُمَّ اُخْتُلِفَ أَهْل
التَّأْوِيل فِي صِفَة قَتْلهمْ إِيَّاهُ , فَقَالَ بَعْضهمْ : رَجَمُوهُ
بِالْحِجَارَةِ ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22272 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا
يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُد الَّذِي
فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } هَذَا رَجُل دَعَا قَوْمه إِلَى اللَّه ,
وَأَبْدَى لَهُمْ النَّصِيحَة فَقَتَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ . وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ
كَانُوا يَرْجُمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ , وَهُوَ يَقُول : اللَّهُمَّ اِهْدِ قَوْمِي
, اللَّهُمَّ اِهْدِ قَوْمِي , اللَّهُمَّ اِهْدِ قَوْمِي , حَتَّى أَقْعَصُوهُ
وَهُوَ كَذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ وَثَبُوا عَلَيْهِ , فَوَطِئُوهُ
بِأَقْدَامِهِمْ حَتَّى مَاتَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22273 حَدَّثَنَا
اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق فِيمَا بَلَغَهُ , عَنْ
اِبْن عَبَّاس , وَعَنْ كَعْب , وَعَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه قَالَ لَهُمْ : { وَمَا
لِيَ لَا أَعْبُد الَّذِي فَطَرَنِي } . . إِلَى قَوْله : { فَاسْمَعُونِ }
وَثَبُوا وَثْبَة رَجُل وَاحِد فَقَتَلُوهُ وَاسْضَتْعَفُوهُ لِضَعْفِهِ وَسَقَمه ,
وَلَمْ يَكُنْ أَحَد يَدْفَع عَنْهُ 22274 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ :
ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق , عَنْ بَعْض أَصْحَابه أَنَّ عَبْد اللَّه بْن
مَسْعُود كَانَ يَقُول : وَطِئُوهُ
بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَ قُصْبه مِنْ دُبُره
تفسير
ابن كثير : قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ بَعْض أَصْحَابه عَنْ اِبْن
مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُمَا وَطِئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَ
قَصّه مِنْ دُبُره وَقَالَ اللَّه لَهُ " اُدْخُلْ الْجَنَّة " فَدَخَلَهَا فَهُوَ
يُرْزَق فِيهَا قَدْ أَذْهَبَ اللَّه عَنْهُ سَقَم الدُّنْيَا وَحُزْنهَا
وَنَصَبهَا وَقَالَ مُجَاهِد قِيلَ لِحَبِيبٍ النَّجَّار اُدْخُلْ الْجَنَّة
وَذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ فَوَجَبَتْ لَهُ فَلَمَّا رَأَى الثَّوَاب " قَالَ يَا
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ " قَالَ قَتَادَة لَا تَلْقَى الْمُؤْمِن إِلَّا
نَاصِحًا لَا تَلْقَاهُ غَاشًّا لَمَّا عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ كَرَامَة اللَّه
تَعَالَى " قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي
وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ " تَمَنَّى وَاَللَّه أَنْ يَعْلَم قَوْمه بِمَا
عَايَنَ مِنْ كَرَامَة اللَّه وَمَا هَجَمَ عَلَيْهِ وَقَالَ اِبْن عَبَّاس نَصَحَ
قَوْمه فِي حَيَاته بِقَوْلِهِ " يَا قَوْمِي اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ " وَبَعْد
مَمَاته فِي قَوْله " يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي
وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ " رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَقَالَ سُفْيَان
الثَّوْرِيّ عَنْ عَاصِم الْأَحْوَل عَنْ أَبِي مِجْلَز .
تفسير
القرطبي : قِيلَ
ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ الْقُشَيْرِيّ
: وَقَالَ الْحَسَن لَمَّا أَرَادَ الْقَوْم أَنْ يَقْتُلُوهُ رَفَعَهُ اللَّه
إِلَى السَّمَاء , فَهُوَ فِي الْجَنَّة لَا يَمُوت إِلَّا بِفَنَاءِ السَّمَاء
وَهَلَاك الْجَنَّة , فَإِذَا أَعَادَ اللَّه الْجَنَّة أُدْخِلَهَا . وَقِيلَ :
نَشَرُوهُ بِالْمِنْشَارِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْن رِجْلَيْهِ , فَوَاَللَّهِ مَا
خَرَجَتْ رُوحه إِلَّا إِلَى الْجَنَّة فَدَخَلَهَا ; فَذَلِكَ قَوْله : " قِيلَ
اُدْخُلْ الْجَنَّة " . وَقَالَ جَمَاعَة : مَعْنَى " قِيلَ اُدْخُلْ الْجَنَّة "
وَجَبَتْ لَك الْجَنَّة ; فَهُوَ خَبَر بِأَنَّهُ قَدْ اِسْتَحَقَّ دُخُول
الْجَنَّة ; لِأَنَّ دُخُولهَا يُسْتَحَقُّ بَعْد الْبَعْث . قُلْت : وَالظَّاهِر
مِنْ الْآيَة أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ قِيلَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّة . قَالَ
قَتَادَة : أَدْخَلَهُ اللَّه الْجَنَّة وَهُوَ فِيهَا حَيّ يُرْزَق ; أَرَادَ
قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ " [ آل عِمْرَان : 169 ] عَلَى
مَا تَقَدَّمَ فِي [ آل عِمْرَان ] بَيَانه . وَاَللَّه أَعْلَم
.
قَالَ
يَا لَيْتَ قَوْمِي
فَلَمَّا شَاهَدَهَا " قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ "
وَهُوَ مُرَتَّب عَلَى تَقْدِير سُؤَال سَائِل عَمَّا وَجَدَ مِنْ قَوْله عِنْد
ذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم الَّذِي هُوَ " بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي
"
تفسير
الطبري : قِيلَ
ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قِيلَ اِدْخُلْ الْجَنَّة
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : قَالَ اللَّه
لَهُ إِذْ قَتَلُوهُ كَذَلِكَ فَلَقِيَهُ : { اُدْخُلْ الْجَنَّة } فَلَمَّا
دَخَلَهَا وَعَايَنَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّه بِهِ لِإِيمَانِهِ وَصَبْره فِيهِ {
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } يَقُول : يَا
لَيْتَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ السَّبَب الَّذِي مِنْ أَجْله غَفَرَ لِي رَبِّي
ذُنُوبِي , وَجَعَلَنِي مِنْ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمْ اللَّه بِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُ
جَنَّته , كَانَ إِيمَانِي بِاَللَّهِ وَصَبْرِي فِيهِ , حَتَّى قُتِلْت ,
فَيُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَيَسْتَوْجِبُوا الْجَنَّة . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا
فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22275
حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : ثني اِبْن إِسْحَاق ,
عَنْ بَعْض أَصْحَابه أَنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود كَانَ يَقُول : قَالَ اللَّه
لَهُ : اُدْخُلْ الْجَنَّة , فَدَخَلَهَا حَيًّا يُرْزَق فِيهَا , قَدْ أَذْهَبَ
اللَّه عَنْهُ سَقَم الدُّنْيَا وَحُزْنهَا وَنَصَبهَا , فَلَمَّا أَفْضَى إِلَى
رَحْمَة اللَّه وَجَنَّته وَكَرَامَته { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ } 22276 حَدَّثَنَا
بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَوْله : {
اُدْخُلْ الْجَنَّة } فَلَمَّا دَخَلَهَا { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ } قَالَ : فَلَا تَلْقَى
الْمُؤْمِن إِلَّا نَاصِحًا , وَلَا تَلْقَاهُ غَاشًّا , فَلَمَّا عَايَنَ مِنْ
كَرَامَة اللَّه { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي
وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ } تَمَنَّى عَلَى اللَّه أَنْ يَعْلَم قَوْمه مَا
عَايَنَ مِنْ كَرَامَة اللَّه , وَمَا هَجَمَ عَلَيْهِ 22277 حَدَّثَنِي مُحَمَّد
بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي
الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا عَنْ اِبْن
أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَوْله : { قِيلَ اُدْخُلْ الْجَنَّة } قَالَ :
قِيلَ : قَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة ; قَالَ ذَاكَ حِين رَأَى الثَّوَاب *
حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار , قَالَ : ثنا مُؤَمِّل , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ
اِبْن جُرَيْج , عَنْ مُجَاهِد { قِيلَ اُدْخُلْ الْجَنَّة } قَالَ : وَجَبَتْ لَك
الْجَنَّة * حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا حَكَّام , عَنْ عَنْبَسَة ,
عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ الْقَاسِم بْن أَبِي بَزَّة , عَنْ
مُجَاهِد { قِيلَ اُدْخُلْ الْجَنَّة } قَالَ : وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة 22278
حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار , قَالَ : ثنا يَحْيَى , عَنْ سُفْيَان , عَنْ عَاصِم
الْأَحْوَل , عَنْ أَبِي مِجْلَز , فِي قَوْله : { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } قَالَ
: إِيمَانِي بِرَبِّي , وَتَصْدِيقِي رُسُله , وَاَللَّه
أَعْلَم
تفسير ابن
كثير : " بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ "
بِإِيمَانِي بِرَبِّي وَتَصْدِيقِي الْمُرْسَلِينَ وَمَقْصُوده أَنَّهُمْ لَوْ
اِطَّلَعُوا عَلَى مَا حَصَلَ لِي مِنْ الثَّوَاب وَالْجَزَاء وَالنَّعِيم
الْمُقِيم لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اِتِّبَاع الرُّسُل فَرَحِمَهُ اللَّه وَرَضِيَ
عَنْهُ فَلَقَدْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَة قَوْمه . قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا هِشَام بْن عُبَيْد اللَّه حَدَّثَنَا اِبْن جَابِر
هُوَ مُحَمَّد عَنْ عَبْد الْمَلِك يَعْنِي اِبْن عُمَيْر قَالَ : قَالَ عُرْوَة
بْن مَسْعُود الثَّقَفِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اِبْعَثْنِي إِلَى قَوْمِي أَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام فَقَالَ رَسُول
اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أَخَاف أَنْ يَقْتُلُوك "
فَقَالَ لَوْ وَجَدُونِي نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اِنْطَلِقْ " فَانْطَلَقَ فَمَرَّ عَلَى
اللَّاتِ وَالْعُزَّى فَقَالَ لَأُصَبِّحَنَّكِ غَدًا بِمَا يَسُوءك فَغَضِبَتْ
ثَقِيف فَقَالَ يَا مَعْشَر ثَقِيف إِنَّ اللَّاتَ لَا لَات وَإِنَّ الْعُزَّى لَا
عُزَّى أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا يَا مَعْشَر الْأَحْلَاف إِنَّ الْعُزَّى لَا عُزَّى
وَإِنَّ اللَّاتَ لَا لَات أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاث مَرَّات
فَرَمَاهُ رَجُل فَأَصَابَ أَكْحَله فَقَتَلَهُ فَبَلَغَ رَسُول اللَّه صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " هَذَا مَثَله كَمَثَلِ صَاحِب يس " قَالَ
يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ
الْمُكْرَمِينَ " . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبْد
الرَّحْمَن بْن مَعْمَر بْن حَزْم أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ كَعْب الْأَحْبَار أَنَّهُ
ذُكِرَ لَهُ حَبِيب بْن زَيْد بْن عَاصِم أَخُو بَنِي مَازِن بْن النَّجَّار
الَّذِي كَانَ مُسَيْلِمَة الْكَذَّاب قَطَّعَهُ بِالْيَمَامَةِ حِين جَعَلَ
يَسْأَلهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُول
لَهُ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه ؟ فَيَقُول نَعَمْ ثُمَّ يَقُول
أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُول اللَّه فَيَقُول لَا أَسْمَع فَيَقُول لَهُ مُسَيْلِمَة
لَعَنَهُ اللَّه أَتَسْمَعُ هَذَا وَلَا تَسْمَع ذَاكَ ؟ فَيَقُول نَعَمْ فَجَعَلَ
يُقَطِّعهُ عُضْوًا عُضْوًا كُلَّمَا سَأَلَهُ لَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى
مَاتَ فِي يَدَيْهِ فَقَالَ كَعْب حِين قِيلَ لَهُ اِسْمه حَبِيب وَكَانَ وَاَللَّه
صَاحِب يس اِسْمه حَبِيب .
تفسير
القرطبي : بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي أَيْ
بِغُفْرَانِ رَبِّي لِي ; فَـ " مَا " مَعَ الْفِعْل بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَر .
وَقِيلَ : بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِد مِنْ الصِّلَة مَحْذُوف . وَيَجُوز أَنْ
تَكُون اِسْتِفْهَامًا فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّب , كَأَنَّهُ قَالَ لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ بِأَيِّ شَيْء غَفَرَ لِي رَبِّي ; قَالَ الْفَرَّاء . وَاعْتَرَضَهُ
الْكِسَائِيّ فَقَالَ : لَوْ صَحَّ هَذَا لَقَالَ بِمَ مِنْ غَيْر أَلِف . وَقَالَ
الْفَرَّاء : يَجُوز أَنْ يُقَال بِمَا بِالْأَلِفِ وَهُوَ اِسْتِفْهَام وَأَنْشَدَ
فِيهِ أَبْيَاتًا . الزَّمَخْشَرِيّ : " بِمَ غَفَرَ لِي " بِطَرْحِ الْأَلِف
أَجْوَد , وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتهَا جَائِزًا ; يُقَال : قَدْ عَلِمْت بِمَا
صَنَعْت هَذَا وَبِمَ صَنَعْت . الْمَهْدَوِيّ : وَإِثْبَات الْأَلِف فِي
الِاسْتِفْهَام قَلِيل . فَيُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " يَعْلَمُونَ "
.
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَقُرِئَ " مِنْ
الْمُكَرَّمِينَ " وَفِي مَعْنَى تَمَنِّيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ
تَمَنَّى أَنْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ لِيَعْلَمُوا حُسْن مَآلِهِ وَحَمِيد
عَاقِبَتِهِ . الثَّانِي تَمَنَّى ذَلِكَ لِيُؤْمِنُوا مِثْل إِيمَانه فَيَصِيرُوا
إِلَى مِثْل حَاله . قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَصَحَ قَوْمه حَيًّا وَمَيِّتًا .
رَفَعَهُ الْقُشَيْرِيّ فَقَالَ : وَفِي الْخَبَر أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ
فِي هَذِهِ الْآيَة ( إِنَّهُ نَصَحَ لَهُمْ فِي حَيَاته وَبَعْد مَوْته ) .
وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى : سُبَّاق الْأُمَم ثَلَاثَة لَمْ يَكْفُرُوا
بِاَللَّهِ طَرْفَة عَيْن : عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ ,
وَمُؤْمِن آل فِرْعَوْن , وَصَاحِب يس , فَهُمْ الصِّدِّيقُونَ ; ذَكَرَهُ
الزَّمَخْشَرِيّ مَرْفُوعًا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي هَذِهِ الْآيَة تَنْبِيه عَظِيم , وَدَلَالَة عَلَى وُجُوب كَظْم الْغَيْظ ,
وَالْحِلْم عَنْ أَهْل الْجَهْل . وَالتَّرَؤُّف عَلَى مَنْ أَدْخَلَ نَفْسه فِي
غِمَار الْأَشْرَار وَأَهْل الْبَغْي , وَالتَّشَمُّر فِي تَخْلِيصه ,
وَالتَّلَطُّف فِي اِفْتِدَائِهِ , وَالِاشْتِغَال بِذَلِكَ عَنْ الشَّمَاتَة بِهِ
وَالدُّعَاء عَلَيْهِ . أَلَا تَرَى كَيْف تَمَنَّى الْخَيْر لِقَتَلَتِهِ ,
وَالْبَاغِينَ لَهُ الْغَوَائِلَ وَهُمْ كَفَرَة عَبَدَة أَصْنَام
.
تفسير
الطبري : يَقُول تَعَالَى ذِكْره : قَالَ اللَّه لَهُ إِذْ قَتَلُوهُ كَذَلِكَ
فَلَقِيَهُ : { اُدْخُلْ الْجَنَّة } فَلَمَّا دَخَلَهَا وَعَايَنَ مَا أَكْرَمَهُ
اللَّه بِهِ لِإِيمَانِهِ وَصَبْره فِيهِ { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } يَقُول : يَا لَيْتَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ السَّبَب
الَّذِي مِنْ أَجْله غَفَرَ لِي رَبِّي ذُنُوبِي , وَجَعَلَنِي مِنْ الَّذِينَ
أَكْرَمَهُمْ اللَّه بِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُ جَنَّته , كَانَ إِيمَانِي بِاَللَّهِ
وَصَبْرِي فِيهِ , حَتَّى قُتِلْت , فَيُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَيَسْتَوْجِبُوا
الْجَنَّة . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل .
ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22275 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة
, قَالَ : ثني اِبْن إِسْحَاق , عَنْ بَعْض أَصْحَابه أَنَّ عَبْد اللَّه بْن
مَسْعُود كَانَ يَقُول : قَالَ اللَّه لَهُ : اُدْخُلْ الْجَنَّة , فَدَخَلَهَا
حَيًّا يُرْزَق فِيهَا , قَدْ أَذْهَبَ اللَّه عَنْهُ سَقَم الدُّنْيَا وَحُزْنهَا
وَنَصَبهَا , فَلَمَّا أَفْضَى إِلَى رَحْمَة اللَّه وَجَنَّته وَكَرَامَته { قَالَ
يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ
الْمُكْرَمِينَ } 22276 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا
سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَوْله : { اُدْخُلْ الْجَنَّة } فَلَمَّا دَخَلَهَا {
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ
الْمُكْرَمِينَ } قَالَ : فَلَا تَلْقَى الْمُؤْمِن إِلَّا نَاصِحًا , وَلَا
تَلْقَاهُ غَاشًّا , فَلَمَّا عَايَنَ مِنْ كَرَامَة اللَّه { قَالَ يَا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ }
تَمَنَّى عَلَى اللَّه أَنْ يَعْلَم قَوْمه مَا عَايَنَ مِنْ كَرَامَة اللَّه ,
وَمَا هَجَمَ عَلَيْهِ 22277 حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو
عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن ,
قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَوْله
: { قِيلَ اُدْخُلْ الْجَنَّة } قَالَ : قِيلَ : قَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة ;
قَالَ ذَاكَ حِين رَأَى الثَّوَاب * حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار , قَالَ : ثنا
مُؤَمِّل , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ اِبْن جُرَيْج , عَنْ مُجَاهِد { قِيلَ
اُدْخُلْ الْجَنَّة } قَالَ : وَجَبَتْ لَك الْجَنَّة * حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد ,
قَالَ : ثنا حَكَّام , عَنْ عَنْبَسَة , عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ
الْقَاسِم بْن أَبِي بَزَّة , عَنْ مُجَاهِد { قِيلَ اُدْخُلْ الْجَنَّة } قَالَ :
وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة 22278 حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار , قَالَ : ثنا يَحْيَى ,
عَنْ سُفْيَان , عَنْ عَاصِم الْأَحْوَل , عَنْ أَبِي مِجْلَز , فِي قَوْله : {
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } قَالَ : إِيمَانِي بِرَبِّي , وَتَصْدِيقِي رُسُله ,
وَاَللَّه أَعْلَم
تفسير
ابن كثير : وَقَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى " وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمه مِنْ
بَعْده مِنْ جُنْد مِنْ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ " يُخْبِر تَعَالَى
أَنَّهُ اِنْتَقَمَ مِنْ قَوْمه بَعْد قَتْلهمْ إِيَّاهُ غَضَبًا مِنْهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُله وَقَتَلُوا وَلِيّه وَيَذْكُر
عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ وَمَا اِحْتَاجَ فِي إِهْلَاكه
إِيَّاهُمْ إِلَى إِنْزَال جُنْد مِنْ الْمَلَائِكَة عَلَيْهِمْ بَلْ الْأَمْر
كَانَ أَيْسَر مِنْ ذَلِكَ . قَالَهُ اِبْن مَسْعُود فِيمَا رَوَاهُ اِبْن إِسْحَاق
عَنْ بَعْض أَصْحَابه أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَمَا أَنْزَلْنَا
عَلَى قَوْمه مِنْ بَعْده مِنْ جُنْد مِنْ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ "
أَيْ مَا كَاثَرْنَاهُمْ بِالْجُمُوعِ الْأَمْر كَانَ أَيْسَر عَلَيْنَا مِنْ
ذَلِكَ .
تفسير
القرطبي : وَمَا
أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ
السَّمَاءِ
فَلَمَّا قُتِلَ حَبِيبٌ غَضِبَ اللَّه لَهُ وَعَجَّلَ النِّقْمَة عَلَى
قَوْمه , فَأَمَرَ جِبْرِيل فَصَاحَ بِهِمْ صَيْحَة فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ ;
فَذَلِكَ قَوْله : " وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمه مِنْ بَعْده مِنْ جُنْد مِنْ
السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ " أَيْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ
رِسَالَة وَلَا نَبِيّ بَعْد قَتْلِهِ ; قَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد وَالْحَسَن .
قَالَ الْحَسَن : الْجُنْد الْمَلَائِكَة النَّازِلُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى
الْأَنْبِيَاء . وَقِيلَ : الْجُنْد الْعَسَاكِر ; أَيْ لَمْ أَحْتَجْ فِي
هَلَاكِهِمْ إِلَى إِرْسَال جُنُود وَلَا جُيُوش وَلَا عَسَاكِر ; بَلْ
أُهْلِكُهُمْ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَة . قَالَ مَعْنَاهُ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره
.
وَمَا
كُنَّا مُنْزِلِينَ تَصْغِير
لِأَمْرِهِمْ ; أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَة مِنْ بَعْد ذَلِكَ
الرَّجُل , أَوْ مِنْ بَعْد رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاء . وَقِيلَ : " وَمَا كُنَّا
مُنْزِلِينَ " عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلهمْ . الزَّمَخْشَرِيّ : فَإِنْ قُلْت فَلِمَ
أَنْزَلَ الْجُنُود مِنْ السَّمَاء يَوْم بَدْر وَالْخَنْدَق ؟ فَقَالَ : "
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا " [ الْأَحْزَاب : 9 ]
, وَقَالَ : " بِثَلَاثَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة مُنْزَلِينَ " [ آل عِمْرَان :
124 ] . " بِخَمْسَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة مُسَوِّمِينَ " [ آل عِمْرَان : 125
] . قُلْت : إِنَّمَا كَانَ يَكْفِي مَلَك وَاحِد , فَقَدْ أُهْلِكَتْ مَدَائِن
قَوْم لُوط بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاح جِبْرِيل , وَبِلَاد ثَمُود وَقَوْم صَالِح
بِصَيْحَةٍ , وَلَكِنَّ اللَّه فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِكُلِّ شَيْء عَلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء وَأُولِي الْعَزْم مِنْ
الرُّسُل فَضْلًا عَنْ حَبِيبٍ النَّجَّار , وَأَوْلَاهُ مِنْ أَسْبَاب الْكَرَامَة
وَالْإِعْزَاز مَا لَمْ يُولِهِ أَحَدًا ; فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَنْزَلَ لَهُ
جُنُودًا مِنْ السَّمَاء , وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ : " وَمَا أَنْزَلْنَا "
. " وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ " إِلَى أَنَّ إِنْزَال الْجُنُود مِنْ عَظَائِم
الْأُمُور الَّتِي لَا يُؤَهَّل لَهَا إِلَّا مِثْلُك , وَمَا كُنَّا نَفْعَل
لِغَيْرِك .
تفسير
الطبري : الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
قَوْم مِنْ بَعْده مِنْ جُنْد مِنْ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ } يَقُول
تَعَالَى ذِكْره : وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْم هَذَا الْمُؤْمِن الَّذِي
قَتَلَهُ قَوْمه لِدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّه وَنَصِيحَته لَهُمْ { مِنْ
بَعْده } يَعْنِي : مِنْ بَعْد مَهْلِكه { مِنْ جُنْد مِنْ السَّمَاء } وَاخْتَلَفَ
أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى الْجُنْد الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه أَنَّهُ لَمْ
يُنْزِل إِلَى قَوْم هَذَا الْمُؤْمِن بَعْد قَتْلِهِمُوهُ فَقَالَ بَعْضهمْ :
عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْزِل اللَّه بَعْد ذَلِكَ إِلَيْهِمْ رِسَالَة ,
وَلَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22279 حَدَّثَنِي
مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ;
وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا
عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَوْله : { مِنْ جُنْد مِنْ السَّمَاء }
قَالَ : رِسَالَة * حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا حَكَّام , عَنْ
عَنْبَسَة , عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ الْقَاسِم بْن أَبِي بَزَّة
عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . 22280 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ :
ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمه مِنْ بَعْده مِنْ
جُنْد مِنْ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ } قَالَ : فَلَا وَاَللَّه مَا
عَاتَبَ اللَّه قَوْمه بَعْد قَتْله { إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة
فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّه
تَعَالَى ذِكْره لَمْ يَبْعَث لَهُمْ جُنُودًا يُقَاتِلهُمْ بِهَا , وَلَكِنَّهُ
أَهْلَكَهُمْ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَة . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22281 حَدَّثَنَا
اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : ثني اِبْن إِسْحَاق , عَنْ بَعْض
أَصْحَابه , أَنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود , قَالَ : غَضِبَ اللَّه لَهُ ,
يَعْنِي لِهَذَا الْمُؤْمِن , لِاسْتِضْعَافِهِمْ إِيَّاهُ غِضْبَة لَمْ تُبْقِ
مِنْ الْقَوْم شَيْئًا , فَعَجَّلَ لَهُمْ النِّقْمَة بِمَا اِسْتَحَلُّوا مِنْهُ ,
وَقَالَ : { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمه مِنْ بَعْده مِنْ جُنْد مِنْ السَّمَاء
وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ } يَقُول : مَا كَاثَرْنَاهُمْ بِالْجُمُوعِ : أَيْ
الْأَمْر أَيْسَر عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ { إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة
فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } فَأَهْلَكَ اللَّه ذَلِكَ الْمُلْك وَأَهْل أَنْطَاكِيَة
, فَبَادُوا عَنْ وَجْه الْأَرْض , فَلَمْ تَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَة وَهَذَا
الْقَوْل الثَّانِي أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَة , وَذَلِكَ أَنَّ
الرِّسَالَة لَا يُقَال لَهَا جُنْد إِلَّا أَنْ يَكُون أَرَادَ مُجَاهِد بِذَلِكَ
الرُّسُل , فَيَكُون وَجْهًا , وَإِنْ كَانَ أَيْضًا مِنْ الْمَفْهُوم بِظَاهِرِ
الْآيَة بَعِيدًا , وَذَلِكَ أَنَّ الرُّسُل مِنْ بَنِي آدَم لَا يَنْزِلُونَ مِنْ
السَّمَاء وَالْخَبَر فِي ظَاهِر هَذِهِ الْآيَة عَنْ أَنَّهُ لَمْ يُنَزِّل مِنْ
السَّمَاء بَعْد مَهْلِك هَذَا الْمُؤْمِن عَلَى قَوْمه جُنْدًا وَذَلِكَ
بِالْمَلَائِكَةِ أَشْبَه مِنْهُ بِبَنِي آدَم .
تفسير
ابن كثير : " إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحه وَاحِدَة فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ "
قَالَ فَأَهْلَكَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْمَلِك وَأَهْل أَنْطَاكِيَّة فَبَادُوا
عَنْ وَجْه الْأَرْض فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَة وَقِيلَ " وَمَا كُنَّا
مُنْزِلِينَ " أَيْ وَمَا كُنَّا نُنَزِّل الْمَلَائِكَة عَلَى الْأُمَم إِذَا
أَهْلَكْنَاهُمْ بَلْ نَبْعَث عَلَيْهِمْ عَذَابًا يُدَمِّرهُمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى
فِي قَوْله تَعَالَى " وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمه مِنْ بَعْده مِنْ جُنْد مِنْ
السَّمَاء " أَيْ مِنْ رِسَالَة أُخْرَى إِلَيْهِمْ قَالَهُ مُجَاهِد وَقَتَادَة
قَالَ قَتَادَة فَلَا وَاَللَّه مَا عَاتَبَ اللَّه قَوْمه بَعْد قَتْله " إِنْ
كَانَتْ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ " قَالَ اِبْن جَرِير
وَالْأَوَّل أَصَحّ لِأَنَّ الرِّسَالَة لَا تُسَمَّى جُنْدًا . قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ بَعَثَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ بَاب بَلَدهمْ ثُمَّ صَاحَ فِيهِمْ صَيْحَة
وَاحِدَة فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ عَنْ آخِرهمْ لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ رُوح
تَتَرَدَّد فِي جَسَد وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ كَثِير مِنْ السَّلَف أَنَّ هَذِهِ
الْقَرْيَة هِيَ أَنْطَاكِيَّة وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كَانُوا رُسُلًا مِنْ
عِنْد الْمَسِيح عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَمَا نَصَّ
عَلَيْهِ قَتَادَة وَغَيْره وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُذْكَر عَنْ وَاحِد مِنْ
مُتَأَخِّرِي الْمُفَسِّرِينَ غَيْره وَفِي ذَلِكَ نَظَر مِنْ وُجُوه " أَحَدهَا "
أَنَّ ظَاهِر الْقِصَّة يَدُلّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا رُسُل اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ لَا مِنْ جِهَة الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا قَالَ تَعَالَى : "
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ إِلَى أَنْ قَالُوا رَبّنَا يَعْلَم
إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبِين "
وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ لَقَالُوا عِبَارَة تُنَاسِب
أَنَّهُمْ مِنْ عِنْد الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم
ثُمَّ لَوْ كَانُوا رُسُل الْمَسِيح لَمَا قَالُوا لَهُمْ " إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَر مِثْلنَا " الثَّانِي " أَنَّ أَهْل أَنْطَاكِيَّة آمَنُوا بِرُسُلِ
الْمَسِيح إِلَيْهِمْ وَكَانُوا أَوَّل مَدِينَة آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ وَلِهَذَا
كَانَتْ عِنْد النَّصَارَى إِحْدَى الْمَدَائِن الْأَرْبَعَة اللَّاتِي فِيهِنَّ
بَتَارِكَة وَهُنَّ الْقُدْس لِأَنَّهَا بَلَد الْمَسِيح وَأَنْطَاكِيَّة
لِأَنَّهَا أَوَّل بَلْدَة آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ عَنْ آخِر أَهْلهَا
وَالْإِسْكَنْدَرِيَّة لِأَنَّ فِيهَا اِصْطَلَحُوا عَلَى اِتِّخَاذ الْبَتَارِكَة
وَالْمَطَارِنَة وَالْأَسَاقِفَة وَالْقَسَاوِسَة وَالشَّمَامِسَة وَالرَّهَابِين .
ثُمَّ رُومِيَّة لِأَنَّهَا مَدِينَة الْمَلِك قُسْطَنْطِين الَّذِي نَصَرَ دِينهمْ
وَأَوْطَدَهُ وَلَمَّا اِبْتَنَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة نَقَلُوا الْبَتْرَك مِنْ
رُومِيَّة إِلَيْهَا كَمَا ذَكَرَهُ غَيْر وَاحِد مِمَّنْ ذَكَرَ تَوَارِيخهمْ
كَسَعِيدِ بْن بِطْرِيق وَغَيْره مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَالْمُسْلِمِينَ فَإِذَا
تَقَرَّرَ أَنَّ أَنْطَاكِيَّة أَوَّل مَدِينَة آمَنَتْ فَأَهْل هَذِهِ الْقَرْيَة
ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُله وَأَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ
بِصَيْحَةٍ وَاحِدَة أَخَمَدَتْهُمْ وَاَللَّه أَعْلَم . " الثَّالِث " أَنَّ
قِصَّة أَنْطَاكِيَّة مَعَ الْحَوَارِيِّينَ أَصْحَاب الْمَسِيح بَعْد نُزُول
التَّوْرَاة وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَيْر
وَاحِد مِنْ السَّلَف أَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْد إِنْزَاله
التَّوْرَاة لَمْ يُهْلِك أُمَّة مِنْ الْأُمَم عَنْ آخِرهمْ بِعَذَابٍ يَبْعَثهُ
عَلَيْهِمْ بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْد ذَلِكَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ
ذَكَرُوهُ عِنْد قَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى :" وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَاب مِنْ بَعْد مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُون الْأُولَى " فَعَلَى هَذَا
يَتَعَيَّن أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن قَرْيَة أُخْرَى
غَيْر أَنْطَاكِيَّة كَمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ غَيْر وَاحِد مِنْ السَّلَف أَيْضًا
أَوْ تَكُون أَنْطَاكِيَّة إِنْ كَانَ لَفْظهَا مَحْفُوظًا فِي هَذِهِ الْقِصَّة
مَدِينَة أُخْرَى غَيْر هَذِهِ الْمَشْهُورَة الْمَعْرُوفَة فَإِنَّ هَذِهِ لَمْ
يُعْرَف أَنَّهَا أُهْلِكَتْ لَا فِي الْمِلَّة النَّصْرَانِيَّة وَلَا قَبْل
ذَلِكَ وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم فَأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ
الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن إِسْحَاق
التُّسْتَرِيّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن أَبِي السَّرِيّ الْعَسْقَلَانِيّ
حَدَّثَنَا حُسَيْن الْأَشْقَر حَدَّثَنَا اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ اِبْن أَبِي
نَجِيح عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " السَّبَق ثَلَاثَة : فَالسَّابِق إِلَى
مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يُوشَع بْن نُون وَالسَّابِق إِلَى عِيسَى
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام صَاحِب يس وَالسَّابِق إِلَى مُحَمَّد صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ "
فَإِنَّهُ حَدِيث مُنْكَر لَا يُعْرَف إِلَّا مِنْ طَرِيق حُسَيْن الْأَشْقَر
وَهُوَ شِيعِيّ مَتْرُوك وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ
.
تفسير
القرطبي : إِنْ
كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً قِرَاءَة الْعَامَّة
" وَاحِدَةً " بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِير مَا كَانَتْ عُقُوبَتهمْ إِلَّا صَيْحَة
وَاحِدَة . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بْن الْقَعْقَاع وَشَيْبَة وَالْأَعْرَج : "
صَيْحَة " بِالرَّفْعِ هُنَا , وَفِي قَوْله : " إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَة
وَاحِدَة فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ " جَعَلُوا الْكَوْن بِمَعْنَى الْوُقُوع
وَالْحُدُوث ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِمْ إِلَّا صَيْحَة
وَاحِدَة . وَأَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِم وَكَثِير مِنْ
النَّحْوِيِّينَ بِسَبَبِ التَّأْنِيث فَهُوَ ضَعِيف ; كَمَا تَكُون مَا قَامَتْ
إِلَّا هِنْد ضَعِيفًا ; مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمَعْنَى مَا قَامَ أَحَد إِلَّا
هِنْد . قَالَ أَبُو حَاتِم : فَلَوْ كَانَ كَمَا قَرَأَ أَبُو جَعْفَر لَقَالَ :
إِنْ كَانَ إِلَّا صَيْحَة . قَالَ النَّحَّاس : لَا يَمْتَنِع شَيْء مِنْ هَذَا ,
يُقَال : مَا جَاءَتْنِي إِلَّا جَارِيَتك , بِمَعْنَى مَا جَاءَتْنِي اِمْرَأَة
أَوْ جَارِيَة إِلَّا جَارِيَتك . وَالتَّقْدِير فِي الْقِرَاءَة بِالرَّفْعِ مَا
قَالَهُ أَبُو إِسْحَاق , قَالَ : الْمَعْنَى إِنْ كَانَتْ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ
إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ , وَقَدَّرَهُ غَيْره : مَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ إِلَّا
صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ . وَكَانَ بِمَعْنَى وَقَعَ كَثِير فِي كَلَام الْعَرَب .
وَقَرَأَ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْأَسْوَد وَيُقَال إِنَّهُ فِي حَرْف عَبْد
اللَّه كَذَلِكَ " إِنْ كَانَتْ إِلَّا زَقْيَة وَاحِدَة " . وَهَذَا مُخَالِف
لِلْمُصْحَفِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللُّغَة الْمَعْرُوفَة زَقَا يَزْقُو إِذَا
صَاحَ , وَمِنْهُ الْمَثَل : أَثْقَلُ مِنْ الزَّوَاقِي ; فَكَانَ يَجِب عَلَى
هَذَا أَنْ يَكُون زِقْوَةً . ذَكَرَهُ النَّحَّاس . قُلْت : وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ
: الزَّقْو وَالزَّقْي مَصْدَر , وَقَدْ زَقَا الصَّدَى يَزْقُو زُقَاءً : أَيْ
صَاحَ , وَكُلّ صَائِح زَاقٍ , وَالزِّقْيَة الصَّيْحَة . قُلْت : وَعَلَى هَذَا
يُقَال : زِقْوَة وَزِقْيَة لُغَتَانِ ; فَالْقِرَاءَة صَحِيحَة لَا اِعْتِرَاض
عَلَيْهَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
فَإِذَا
هُمْ خَامِدُونَ أَيْ مَيِّتُونَ
هَامِدُونَ ; تَشْبِيهًا بِالرَّمَادِ الْخَامِد . وَقَالَ قَتَادَة : هَلْكَى .
وَالْمَعْنَى وَاحِد .
تفسير
الطبري : وَقَوْله : { إِنْ
كَانَتْ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } يَقُول : مَا كَانَتْ
هَلَكَتهمْ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة أَنْزَلَهَا اللَّه مِنْ السَّمَاء عَلَيْهِمْ
. وَاخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَقَرَأَتْهُ عَامَّة قُرَّاء
الْأَمْصَار { إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة } نَصْبًا عَلَى التَّأْوِيل
الَّذِي ذَكَرْت , وَأَنَّ فِي " كَانَتْ " مُضْمَرًا . وَذُكِرَ عَنْ أَبِي
جَعْفَر الْمَدَنِيّ أَنَّهُ قَرَأَهُ : " إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة " رَفْعًا عَلَى
أَنَّهَا مَرْفُوعَة بِكَانَ , وَلَا مُضْمَر فِي كَانَ . وَالصَّوَاب مِنْ
الْقِرَاءَة فِي ذَلِكَ عِنْدِي النَّصْب لِإِجْمَاعِ الْحُجَّة عَلَى ذَلِكَ ,
وَعَلَى أَنَّ فِي " كَانَتْ " مُضْمَرًا. وَقَوْله : { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }
يَقُول : فَإِذَا هُمْ هَالِكُونَ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق