وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً
فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذكْرَ
وَخشِيَ الرَّحْمـنَ بِالْغَيْبِ فَبَشرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا
نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ
أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ)
تفسير ابن
كثير
: وَقَوْله تَعَالَى " وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ سَدًّا " قَالَ
مُجَاهِد عَنْ الْحَقّ " وَمِنْ خَلْفهمْ سَدًّا " قَالَ مُجَاهِد : عَنْ الْحَقّ
فَهُمْ مُتَرَدِّدُونَ . وَقَالَ قَتَادَة فِي الضَّلَالَات وَقَوْله تَعَالَى "
فَأَغْشَيْنَاهُمْ " أَيْ أَغْشَيْنَا أَبْصَارهمْ عَنْ الْحَقّ " فَهُمْ لَا
يُبْصِرُونَ " أَيْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِخَيْرٍ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ قَالَ
اِبْن جَرِير : وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ
يَقْرَأ " فَأَعْشَيْنَاهُمْ " بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة مِنْ الْعَشَا وَهُوَ دَاء
فِي الْعَيْن وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَم : جَعَلَ اللَّه
تَعَالَى هَذَا السَّدّ بَيْنهمْ وَبَيْن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان فَهُمْ لَا
يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ وَقَرَأَ " إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة رَبّك
لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلّ آيَة حَتَّى يَرَوْا الْعَذَاب الْأَلِيم
" ثُمَّ قَالَ : مَنْ مَنَعَهُ اللَّه تَعَالَى لَا يَسْتَطِيع . وَقَالَ عِكْرِمَة
قَالَ أَبُو جَهْل لَئِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ
فَأُنْزِلَتْ " إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقهمْ أَغْلَالًا إِلَى قَوْله
فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ " قَالَ وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا مُحَمَّد فَيَقُول
أَيْنَ هُوَ أَيْنَ هُوَ ؟ لَا يُبْصِرهُ رَوَاهُ اِبْن جَرِير ; وَقَالَ مُحَمَّد
بْن إِسْحَاق حَدَّثَنِي يَزِيد بْن زِيَاد عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب قَالَ : قَالَ
أَبُو جَهْل وَهُمْ جُلُوس إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُم أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ
كُنْتُمْ مُلُوكًا فَإِذَا مُتُّمْ بُعِثْتُمْ بَعْد مَوْتكُمْ وَكَانَتْ لَكُمْ
جِنَان خَيْر مِنْ جِنَان الْأُرْدُنّ وَأَنَّكُمْ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ كَانَ
لَكُمْ مِنْهُ ذَبْح ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْد مَوْتكُمْ وَكَانَتْ لَكُمْ نَار
تُعَذَّبُونَ بِهَا وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْد ذَلِكَ وَفِي يَده حَفْنَة مِنْ تُرَاب وَقَدْ أَخَذَ اللَّه
تَعَالَى عَلَى أَعْيُنهمْ دُونه فَجَعَلَ يَذُرّهَا عَلَى رُءُوسهمْ وَيَقْرَأ "
يس وَالْقُرْآن الْحَكِيم حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى قَوْله تَعَالَى وَجَعَلْنَا
مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفهمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا
يُبْصِرُونَ " وَانْطَلَقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِحَاجَتِهِ وَبَاتُوا رُصَدَاء عَلَى بَابه حَتَّى خَرَجَ عَلَيْهِمْ بَعْد ذَلِكَ
خَارِج مِنْ الدَّار فَقَالَ مَا لكُمْ ؟ قَالُوا نَنْتَظِر مُحَمَّدًا قَالَ قَدْ
خَرَجَ عَلَيْكُمْ فَمَا بَقِيَ مِنْكُمْ مِنْ رَجُل إِلَّا وَضَعَ عَلَى رَأْسه
تُرَابًا ثُمَّ ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَجَعَلَ كُلّ رَجُل مِنْهُمْ يَنْفُض مَا عَلَى
رَأْسه مِنْ التُّرَاب . قَالَ وَقَدْ بَلَغَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَوْل أَبِي جَهْل فَقَالَ : " وَأَنَا أَقُول ذَلِكَ إِنَّ لَهُمْ
مِنِّي لَذَبْحًا وَإِنَّهُ لَآخِذهمْ " وَقَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
.
تفسير
القرطبي : قَالَ مُقَاتِل : لَمَّا عَادَ أَبُو جَهْل إِلَى أَصْحَابه , وَلَمْ
يَصِل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَسَقَطَ الْحَجَر مِنْ
يَده , أَخَذَ الْحَجَرَ رَجُلٌ آخَر مِنْ بَنِي مَخْزُوم وَقَالَ : أَقْتُلُهُ
بِهَذَا الْحَجَر . فَلَمَّا دَنَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَمَسَ اللَّه عَلَى بَصَره فَلَمْ يَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابه فَلَمْ يُبْصِرْهُمْ حَتَّى
نَادَوْهُ , فَهَذَا مَعْنَى الْآيَة . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي
رِوَايَته : جَلَسَ عُتْبَة وَشَيْبَة اِبْنَا رَبِيعَة , وَأَبُو جَهْل
وَأُمِّيَّة بْن خَلَف , يَرْصُدُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَبْلُغُوا مِنْ أَذَاهُ ; فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ
يَقْرَأُ [ يس ] وَفِي يَده تُرَاب فَرَمَاهُمْ بِهِ وَقَرَأَ : " وَجَعَلْنَا مِنْ
بَيْن أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا " فَأَطْرَقُوا حَتَّى مَرَّ
عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَة [ سُبْحَان ]
وَمَضَى فِي [ الْكَهْف ] الْكَلَام فِي " سَدًّا " بِضَمِّ السِّين وَفَتْحهَا
وَهُمَا لُغَتَانِ . وَقَالَ الضَّحَّاك : " وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ
سَدًّا " أَيْ الدُّنْيَا " وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا " أَيْ الْآخِرَة ; أَيْ
عَمُوا عَنْ الْبَعْث وَعَمُوا عَنْ قَبُول الشَّرَائِع فِي الدُّنْيَا ; قَالَ
اللَّه تَعَالَى : " وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْن
أَيْدِيهمْ وَمَا خَلْفهمْ " [ فُصِّلَتْ : 25 ] أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ الدُّنْيَا
وَدَعَوْهُمْ إِلَى التَّكْذِيب بِالْآخِرَةِ . وَقِيلَ : عَلَى هَذَا " مِنْ بَيْن
أَيْدِيهمْ سَدًّا " أَيْ غُرُورًا بِالدُّنْيَا " وَمِنْ خَلْفهمْ سَدًّا " أَيْ
تَكْذِيبًا بِالْآخِرَةِ . وَقِيلَ : " مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ " الْآخِرَة " وَمِنْ
خَلْفهمْ " الدُّنْيَا .
فأغشيناهم : أَيْ
غَطَّيْنَا أَبْصَارَهُمْ ; وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّل [ الْبَقَرَة ] . وَقَرَأَ
اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَيَحْيَى بْن يَعْمَرَ " فَأَعْشَيْنَاهُمْ "
بِالْعَيْنِ غَيْر مُعْجَمَة مِنْ الْعَشَاء فِي الْعَيْن وَهُوَ ضَعْف بَصَرهَا
حَتَّى لَا تُبْصِر بِاللَّيْلِ قَالَ : مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ
نَارِهِ وَقَالَ تَعَالَى : " وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْر الرَّحْمَن " [ الزُّخْرُف
: 36 ] الْآيَة . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب , وَالْمَعْنَى أَعْمَيْنَاهُمْ ; كَمَا
قَالَ : وَمِنْ الْحَوَادِثِ لَا أَبَا لَك أَنَّنِي ضُرِبَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ
بِالْأَسْدَادِ لَا أَهْتَدِي فِيهَا لِمَوْضِعِ تَلْعَةٍ بَيْنَ الْعُذَيْبِ
وَبَيْن أَرْضِ مُرَادِ
فهم لا يبصرون : أَيْ
الْهُدَى ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : مُحَمَّدًا حِينَ اِئْتَمَرُوا عَلَى
قَتْله ; قَالَهُ السُّدِّيّ .
تفسير
الطبري : وَقَوْله : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ سَدًّا } يَقُول
تَعَالَى ذِكْره : وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْن أَيْدِي هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ سَدًّا
, وَهُوَ الْحَاجِز بَيْن الشَّيْئَيْنِ ; إِذَا فَتَحَ كَانَ مِنْ فِعْل بَنِي
آدَم , وَإِذَا كَانَ مِنْ فِعْل اللَّه كَانَ بِالضَّمِّ . وَبِالضَّمِّ قَرَأَ
ذَلِكَ قُرَّاء الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة وَبَعْض الْكُوفِيِّينَ . وَقَرَأَهُ
بَعْض الْمَكِّيِّينَ وَعَامَّة قُرَّاء الْكُوفِيِّينَ بِفَتْحِ السِّين { سَدًّا
} فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَاهُمَا ; وَالضَّمّ أَعْجَب الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ فِي
ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى جَائِزَة صَحِيحَة . وَعَنَى بِقَوْلِهِ : {
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفهمْ سَدًّا } أَنَّهُ
زَيَّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالهمْ , فَهُمْ يَعْمَهُونَ , وَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا
, وَلَا يَتَنَبَّهُونَ حَقًّا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل
التَّأْوِيل. ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22232 حَدَّثَنِي اِبْن حُمَيْد , قَالَ
: ثنا حَكَّام , عَنْ عَنْبَسَة , عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ
الْقَاسِم بْن أَبِي بَزَّة , عَنْ مُجَاهِد , فِي قَوْله : { مِنْ بَيْن
أَيْدِيهمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفهمْ سَدًّا } قَالَ : عَنْ الْحَقّ * حَدَّثَنِي
مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ;
وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا
عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ
سَدًّا وَمِنْ خَلْفهمْ سَدًّا } عَنْ الْحَقّ فَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ 22233
حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة {
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفهمْ سَدًّا } قَالَ :
ضَلَالَات 22234 حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ :
قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْل اللَّه : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْن أَيْدِيهمْ
سَدًّا وَمِنْ خَلْفهمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } قَالَ :
جَعَلَ هَذَا سَدًّا بَيْنهمْ وَبَيْن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان , فَهُمْ لَا
يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ , وَقَرَأَ : { وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وَقَرَأَ : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَة رَبّك لَا يُؤْمِنُونَ } [ سُورَة يُونُس : الْآيَة : 96 ] . .. الْآيَة
كُلّهَا , وَقَالَ : مَنْ مَنَعَهُ اللَّه لَا يَسْتَطِيع وَقَوْله : {
أَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } يَقُول : فَأَغْشَيْنَا أَبْصَار
هَؤُلَاءِ : أَيْ جَعَلْنَا عَلَيْهَا غِشَاوَة فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا
يَنْتَفِعُونَ بِهِ , كَمَا : 22235 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد ,
قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ }
هُدًى , وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي
أَبِي جَهْل بْن هِشَام حِين حَلَفَ أَنْ يَقْتُلهُ أَوْ يَشْدَخ رَأْسه بِصَخْرَةٍ
. ذِكْر الرِّوَايَة بِذَلِكَ : 22236 - حَدَّثَنِي عِمْرَان بْن مُوسَى , قَالَ :
ثنا عَبْد الْوَارِث بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا عُمَارَة بْن أَبِي حَفْصَة , عَنْ
عِكْرِمَة قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْل : لَئِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا لَأَفْعَلَنَّ
وَلَأَفْعَلَنَّ , فَأُنْزِلَتْ : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقهمْ أَغْلَالًا }
. . إِلَى قَوْله { فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } قَالَ : فَكَانُوا يَقُولُونَ : هَذَا
مُحَمَّد , فَيَقُول : أَيْنَ هُوَ , أَيْنَ هُوَ ؟ لَا يُبْصِرهُ وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأ ذَلِكَ : " فَأَعْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا
يُبْصِرُونَ " بِالْعَيْنِ بِمَعْنَى أَعْشَيْنَاهُمْ عَنْهُ , وَذَلِكَ أَنَّ
الْعَشَا هُوَ أَنْ يَمْشِي بِاللَّيْلِ وَلَا يُبْصِر .
تفسير
ابن كثير : وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ " أَيْ قَدْ خَتَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالَةِ فَمَا يُفِيد
فِيهِمْ الْإِنْذَار وَلَا يَتَأَثَّرُونَ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرهَا فِي
أَوَّل سُورَة الْبَقَرَة وَكَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة رَبّك لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلّ آيَة
حَتَّى يَرَوْا الْعَذَاب الْأَلِيم " .
تفسير القرطبي :
تَقَدَّمَ فِي [ الْبَقَرَة ] وَالْآيَة رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَغَيْرهمْ .
وَعَنْ اِبْن شِهَاب : أَنَّ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَحْضَرَ غَيْلَان
الْقَدَرِيّ فَقَالَ : يَا غَيْلَان بَلَغَنِي أَنَّك تَتَكَلَّم بِالْقَدَرِ ;
فَقَالَ : يَكْذِبُونَ عَلَيَّ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ . ثُمَّ قَالَ : يَا
أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت قَوْل اللَّه تَعَالَى : " إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسَان مِنْ نُطْفَة أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا .
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا " [ الْإِنْسَان :
2 3 ] قَالَ : اِقْرَأْ يَا غَيْلَان فَقَرَأَ حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى قَوْله : "
فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا " [ الْإِنْسَان : 29 ] فَقَالَ
اِقْرَأْ فَقَالَ : " وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه " [ الْإِنْسَان
: 30 ] فَقَالَ : وَاَللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَعَرْت أَنَّ هَذَا
فِي كِتَاب اللَّه قَطُّ . فَقَالَ لَهُ : يَا غَيْلَان اِقْرَأْ أَوَّل سُورَة [
يس ] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ " وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " فَقَالَ غَيْلَان : وَاَللَّه يَا أَمِير
الْمُومِنِينَ لِكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأهَا قَطُّ قَبْل الْيَوْم ; اِشْهَدْ يَا
أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أَنِّي تَائِب . قَالَ عُمَر : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ
صَادِقًا فَتُبْ عَلَيْهِ وَثَبِّتْهُ , وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَسَلِّطْ عَلَيْهِ
مَنْ لَا يَرْحَمُهُ وَاجْعَلْهُ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ; فَأَخَذَهُ هِشَام
فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَصَلَبَهُ . وَقَالَ اِبْن عَوْن : فَأَنَا
رَأَيْته مَصْلُوبًا عَلَى بَاب دِمَشْق . فَقُلْنَا : مَا شَأْنُك يَا غَيْلَان ؟
فَقَالَ : أَصَابَتْنِي دَعْوَة الرَّجُل الصَّالِح عُمَر بْن عَبْد
الْعَزِيز.
تفسير الطبري
: الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَسَوَاء عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره :
وَسَوَاء يَا مُحَمَّد عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْل , أَيْ
الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْك إِلَيْهِمْ الْإِنْذَار , أَوْ تَرْك الْإِنْذَار ,
فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ , لِأَنَّ اللَّه قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ
.
تفسير
ابن كثير : إِنَّمَا تُنْذِر مَنْ اِتَّبَعَ الذِّكْر " أَيْ إِنَّمَا يَنْتَفِع
بِإِنْذَارِك الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الذِّكْر وَهُوَ الْقُرْآن
الْعَظِيم " وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ " أَيْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَد
إِلَّا اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَعْلَم أَنَّ اللَّه مُطَّلِع عَلَيْهِ
وَعَالِم بِمَا يَفْعَل " فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ " أَيْ لِذُنُوبِهِ " وَأَجْر
كَرِيم " أَيْ كَثِير وَاسِع حَسَن جَمِيل كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى "
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْر كَبِير "
.
تفسير
القرطبي : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ
: يَعْنِي الْقُرْآن وَعَمِلَ بِهِ . وَخَشِيَ
الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ : أَيْ مَا غَابَ مِنْ عَذَابه وَنَاره ; قَالَهُ
قَتَادَة . وَقِيلَ : أَيْ يَخْشَاهُ فِي مَغِيبه عَنْ أَبْصَار النَّاس
وَانْفِرَاده بِنَفْسِهِ . فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ : أَيْ لِذَنْبِهِ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ : أَيْ الْجَنَّة
.
تفسير
الطبري : وَقَوْله : { إِنَّمَا تُنْذِر مَنْ اِتَّبَعَ الذِّكْر } يَقُول
تَعَالَى ذِكْره : إِنَّمَا يَنْفَع إِنْذَارك يَا مُحَمَّد مَنْ آمَنَ
بِالْقُرْآنِ , وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَحْكَام اللَّه { وَخَشِيَ الرَّحْمَن }
يَقُول : وَخَافَ اللَّه حِين يَغِيب عَنْ أَبْصَار النَّاظِرِينَ , لَا
الْمُنَافِق الَّذِي يَسْتَخِفّ بِدِينِ اللَّه إِذَا خَلَا , وَيَظْهَر الْإِيمَان
فِي الْمَلَأ , وَلَا الْمُشْرِك الَّذِي قَدْ طَبَعَ اللَّه عَلَى قَلْبه.
وَقَوْله : { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } يَقُول : فَبَشِّرْ يَا مُحَمَّد هَذَا
الَّذِي اِتَّبَعَ الذِّكْر وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ بِمَغْفِرَةٍ مِنْ
اللَّه لِذُنُوبِهِ { وَأَجْر كَرِيم } يَقُول : وَثَوَاب مِنْهُ لَهُ فِي
الْآخِرَة كَرِيم , وَذَلِكَ أَنْ يُعْطِيه عَلَى عَمَله ذَلِكَ الْجَنَّة .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ
ذَلِكَ : 22237 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد ,
عَنْ قَتَادَة { إِنَّمَا تُنْذِر مَنْ اِتَّبَعَ الذِّكْر } وَاتِّبَاع الذِّكْر :
اِتِّبَاع الْقُرْآن
تفسير
ابن كثير : ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ " إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى " أَيْ
يَوْم الْقِيَامَة وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُحْيِي قَلْب
مَنْ يَشَاء مِنْ الْكُفَّار الَّذِينَ قَدْ مَاتَتْ قُلُوبهمْ بِالضَّلَالَةِ
فَيَهْدِيهِمْ بَعْد ذَلِكَ إِلَى الْحَقّ كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْد ذِكْر
قَسْوَة الْقُلُوب " اِعْلَمُوا أَنَّ اللَّه يُحْيِي الْأَرْض بَعْد مَوْتهَا قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " وَقَوْله تَعَالَى "
وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا " أَيْ مِنْ الْأَعْمَال وَفِي قَوْله تَعَالَى "
وَآثَارهمْ " قَوْلَانِ " أَحَدهمَا " نَكْتُب أَعْمَالهمْ الَّتِي بَاشَرُوهَا
بِأَنْفُسِهِمْ وَآثَارهمْ الَّتِي أَثَّرُوهَا مِنْ بَعْدهمْ فَنَجْزِيهِمْ عَلَى
ذَلِكَ أَيْضًا إِنْ خَيْرًا فَخَيْر وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ كَقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّة حَسَنَة كَانَ
لَهُ أَجْرهَا وَأَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْده مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ
أُجُورهمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ
وِزْرهَا وَوِزْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْده مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ
أَوْزَارهمْ شَيْء " رَوَاهُ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة شُعْبَة عَنْ عَوْن بْن أَبِي
جُحَيْفَة عَنْ الْمُنْذِر بْن جَرِير عَنْ أَبِيهِ جَرِير بْن عَبْد اللَّه
الْبَجَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَفِيهِ قِصَّة مُجْتَابِي الثِّمَار
الْمُضَرِيِّينَ وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْن
سُلَيْمَان الْجُعْفِيّ عَنْ أَبِي الْمُحَيَّاة يَحْيَى بْن يَعْلَى عَنْ عَبْد
الْمَلِك بْن عُمَيْر عَنْ جَرِير بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَذَكَرَ
الْحَدِيث بِطُولِهِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة " وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا
وَآثَارهمْ " وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة أَبِي عَوَانَة عَنْ عَبْد
الْمَلِك بْن عُمَيْر بْن الْمُنْذِر بْن جَرِير عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ وَهَكَذَا
الْحَدِيث الْآخَر الَّذِي فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه
عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا
مَاتَ اِبْن آدَم اِنْقَطَعَ عَمَله إِلَّا مِنْ ثَلَاث : مِنْ عِلْم يُنْتَفَع
بِهِ أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ أَوْ صَدَقَة جَارِيَة مِنْ بَعْده " وَقَالَ
سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ سَمِعْت
مُجَاهِدًا يَقُول فِي قَوْله تَعَالَى " إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى
وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ " قَالَ مَا أَوْرَثُوا مِنْ الضَّلَالَة .
وَقَالَ اِبْن لَهِيعَة عَنْ عَطَاء بْن دِينَار عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر فِي
قَوْله تَعَالَى " وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ " يَعْنِي مَا أَثَّرُوا
يَقُول مَا سَنُّوا مِنْ سُنَّة فَعَمِلَ بِهَا قَوْم مِنْ بَعْد مَوْتهمْ فَإِنْ
كَانَتْ خَيْرًا فَلَهُمْ مِثْل أُجُورهمْ لَا يَنْقُص مِنْ أَجْر مَنْ عَمِلَ بِهِ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا فَعَلَيْهِمْ مِثْل أَوْزَارهمْ وَلَا يَنْقُص مِنْ
أَوْزَار مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيْئًا ذَكَرَهُمَا اِبْن أَبِي حَاتِم وَهَذَا
الْقَوْل هُوَ اِخْتِيَار الْبَغَوِيّ . " وَالْقَوْل الثَّانِي " أَنَّ الْمُرَاد
بِذَلِكَ آثَارَ خُطَاهُمْ إِلَى الطَّاعَة أَوْ الْمَعْصِيَة قَالَ اِبْن أَبِي
نَجِيح وَغَيْره عَنْ مُجَاهِد " مَا قَدَّمُوا " أَعْمَالهمْ " وَآثَارهمْ " قَالَ
خُطَاهُمْ بِأَرْجُلِهِمْ وَكَذَا قَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة " وَآثَارهمْ "
يَعْنِي خُطَاهُمْ . وَقَالَ قَتَادَة لَوْ كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُغْفِلًا
شَيْئًا مِنْ شَأْنك يَا اِبْن آدَم أَغْفَلَ مَا تَعْفِي الرِّيَاح مِنْ هَذِهِ
الْآثَار وَلَكِنْ أَحْصَى عَلَى اِبْن آدَم أَثَره وَعَمَله كُلّه حَتَّى أَحْصَى
هَذَا الْأَثَر فِيمَا هُوَ مِنْ طَاعَة اللَّه تَعَالَى أَوْ مِنْ مَعْصِيَته
فَمَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكْتُب أَثَره فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى
فَلْيَفْعَلْ . وَقَدْ وَرَدَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيث " الْحَدِيث
الْأَوَّل " . قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا عَبْد الصَّمَد حَدَّثَنَا أَبِي
حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيّ عَنْ أَبِي نَضْرَة عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ
اللَّه عَنْهُمَا قَالَ خَلَتْ الْبِقَاع حَوْل الْمَسْجِد فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَة
أَنْ يَنْتَقِلُوا قُرْب الْمَسْجِد فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ : " إِنِّي بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَنْتَقِلُوا قُرْب الْمَسْجِد " قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُول اللَّه قَدْ أَرَدْنَا
ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا بَنِي سَلَمَة دِيَاركُمْ
تُكْتَب آثَاركُمْ دِيَاركُمْ تُكْتَب آثَاركُمْ " وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِم مِنْ
حَدِيث سَعِيد الْجُرَيْرِيّ وَكَهْمَس بْن الْحَسَن كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي نَضْرَة
وَاسْمه الْمُنْذِر بْن مَالِك بْن قِطْعَة الْعَبْدِيّ عَنْ جَابِر رَضِيَ اللَّه
عَنْهُ بِهِ . " الْحَدِيث الثَّانِي " قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا
مُحَمَّد بْن الْوَزِير الْوَاسِطِيّ حَدَّثَنَا إِسْحَاق الْأَزْرَق عَنْ سُفْيَان
الثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي سُفْيَان عَنْ أَبِي نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ
رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ كَانَتْ بَنُو سَلَمَة فِي نَاحِيَة مِنْ الْمَدِينَة
فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قَرِيب مِنْ الْمَسْجِد فَنَزَلَتْ " إِنَّا
نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ " فَقَالَ لَهُمْ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ آثَاركُمْ تُكْتَب " فَلَمْ
يَنْتَقِلُوا تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ عِنْد تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة
الْكَرِيمَة عَنْ مُحَمَّد بْن الْوَزِير بِهِ ثُمَّ قَالَ حَسَن غَرِيب مِنْ
حَدِيث الثَّوْرِيّ وَرَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ سُلَيْمَان بْن عُمَر بْن خَالِد
الرَّقِّيّ عَنْ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ طَرِيف وَهُوَ
اِبْن شِهَاب أَبُو سُفْيَان السَّعْدِيّ عَنْ أَبِي نَضْرَة بِهِ وَقَدْ رُوِيَ
مِنْ غَيْر طَرِيق الثَّوْرِيّ فَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَزَّار
حَدَّثَنَا عَبَّاد بْن زِيَاد السَّاجِيّ حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن عُمَر
حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ سَعِيد الْجُرَيْرِيّ عَنْ أَبِي نَضْرَة عَنْ أَبِي
سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : إِنَّ بَنِي سَلَمَة شَكَوْا إِلَى رَسُول
اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعْد مَنَازِلهمْ مِنْ الْمَسْجِد
فَنَزَلَتْ " وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ " فَأَقَامُوا فِي مَكَانهمْ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْد الْأَعْلَى حَدَّثَنَا
الْجُرَيْرِيّ عَنْ أَبِي نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ وَفِيهِ غَرَابَة مِنْ
حَيْثُ ذِكْر نُزُول هَذِهِ الْآيَة وَالسُّورَة بِكَمَالِهَا مَكِّيَّة فَاَللَّه
أَعْلَم . " الْحَدِيث الثَّالِث " قَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنَا نَصْر بْن عَلِيّ
الْجَهْضَمِيّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيل عَنْ
سِمَاك عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ كَانَتْ
مَنَازِل الْأَنْصَار مُتَبَاعِدَة مِنْ الْمَسْجِد فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا
إِلَى الْمَسْجِد فَنَزَلَتْ " وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ " فَقَالُوا
نَثْبُت مَكَاننَا هَكَذَا رَوَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء مَرْفُوع وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد بْن أَبِي مَرْيَم عَنْ
مُحَمَّد بْن يُوسُف الْفِرْيَابِيّ عَنْ إِسْرَائِيل عَنْ سِمَاك عَنْ سَعِيد بْن
جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ كَانَتْ الْأَنْصَار
بَعِيدَة مَنَازِلهمْ مِنْ الْمَسْجِد فَأَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى
الْمَسْجِد فَنَزَلَتْ " وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ " فَثَبَتُوا فِي
مَنَازِلهمْ . " الْحَدِيث الرَّابِع " قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا حَسَن
حَدَّثَنَا اِبْن لَهِيعَة حَدَّثَنِي حُيَيّ بْن عَبْد اللَّه عَنْ أَبِي عَبْد
الرَّحْمَن الْحُبُلِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا
قَالَ تُوُفِّيَ رَجُل بِالْمَدِينَةِ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : " يَا لَيْتَهُ مَاتَ فِي غَيْر مَوْلِده " فَقَالَ
رَجُل مِنْ النَّاس وَلِمَ يَا رَسُول اللَّه ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الرَّجُل إِذَا تُوُفِّيَ فِي غَيْر مَوْلِده
قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِده إِلَى مُنْقَطَع أَثَره فِي الْجَنَّة " وَرَوَاهُ
النَّسَائِيّ عَنْ يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى وَابْن مَاجَهْ عَنْ حَرْمَلَة
كِلَاهُمَا عَنْ اِبْن وَهْب عَنْ حُيَيّ بْن عَبْد اللَّه بِهِ وَقَالَ اِبْن
جَرِير حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن
عَنْ ثَابِت قَالَ مَشَيْت مَعَ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَأَسْرَعْت الْمَشْي
فَأَخَذَ بِيَدِي فَمَشَيْنَا رُوَيْدًا فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاة قَالَ أَنَس
مَشَيْت مَعَ زَيْد بْن ثَابِت فَأَسْرَعْت الْمَشْي فَقَالَ يَا أَنَس أَمَا
شَعَرْت أَنَّ الْآثَار تُكْتَب ؟ وَهَذَا الْقَوْل لَا تَنَافِي بَيْنه وَبَيْن
الْأَوَّل بَلْ فِي هَذَا تَنْبِيه وَدَلَالَة عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى
وَالْأَحْرَى فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآثَار تُكْتَب فَلَأَنْ تُكْتَب
تِلْكَ الَّتِي فِيهَا قُدْوَة بِهِمْ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى
وَاَللَّه أَعْلَم وَقَوْله تَعَالَى : " وَكُلّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام
مُبِين " أَيْ وَجَمِيع الْكَائِنَات مَكْتُوب فِي كِتَاب مَسْطُور مَضْبُوط فِي
لَوْح مَحْفُوظ وَالْإِمَام الْمُبِين هَهُنَا هُوَ أُمّ الْكِتَاب قَالَهُ
مُجَاهِد وَقَتَادَة وَعَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَم وَكَذَا فِي قَوْله
تَعَالَى " يَوْم نَدْعُو كُلّ أُنَاس بِإِمَامِهِمْ " أَيْ بِكِتَابِ أَعْمَالهمْ
الشَّاهِد عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوهُ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ كَمَا قَالَ عَزَّ
وَجَلَّ " وَوُضِعَ الْكِتَاب وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء " وَقَالَ
تَعَالَى : " وَوُضِعَ الْكِتَاب فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتنَا مَا لِهَذَا الْكِتَاب لَا يُغَادِر صَغِيرَة وَلَا
كَبِيرَة إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِم رَبّك
أَحَدًا " .
تفسير
القرطبي : فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى " إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي الْمَوْتَى أَخْبَرَنَا تَعَالَى بِإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى رَدًّا عَلَى
الْكَفَرَة . وَقَالَ الضَّحَّاك وَالْحَسَن : أَيْ نُحْيِيهِمْ بِالْإِيمَانِ
بَعْد الْجَهْل . وَالْأَوَّل أَظْهَرُ ; أَيْ نُحْيِيهِمْ بِالْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ
. الثَّانِيَة ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِذِكْرِهِ كَتْبَ الْآثَار وَإِحْصَاءَ كُلّ
شَيْء وَكُلّ مَا يَصْنَعهُ الْإِنْسَان . قَالَ قَتَادَة : مَعْنَاهُ مِنْ عَمَلٍ
. وَقَالَهُ مُجَاهِد وَابْن زَيْد . وَنَظِيره قَوْله : " عَلِمَتْ نَفْس مَا
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ " : [ الِانْفِطَار : 5 ] وَقَوْله : " يُنَبَّأُ
الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ " [ الْقِيَامَة : 13 ] , وَقَالَ :
" اِتَّقُوا اللَّه وَلْتَنْظُرْ نَفْس مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ " [ الْحَشْر : 18 ]
فَآثَار الْمَرْء الَّتِي تَبْقَى وَتُذْكَر بَعْد الْإِنْسَان مِنْ خَيْر أَوْ
شَرّ يُجَازَى عَلَيْهَا : مِنْ أَثَر حَسَن ; كَعِلْمٍ عَلَّمُوهُ , أَوْ كِتَاب
صَنَّفُوهُ , أَوْ حَبِيسٍ اِحْتَبَسُوهُ , أَوْ بِنَاء بَنَوْهُ مِنْ مَسْجِد أَوْ
رِبَاط أَوْ قَنْطَرَة أَوْ نَحْو ذَلِكَ . أَوْ سَيِّئ كَوَظِيفَةٍ وَظَّفَهَا
بَعْض الظُّلَّام عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَسِكَّة أَحْدَثَهَا فِيهَا
تَخْسِيرُهُمْ , أَوْ شَيْء أَحْدَثَهُ فِيهِ صَدّ عَنْ ذِكْر اللَّه مِنْ أَلْحَان
وَمَلَاهٍ , وَكَذَلِكَ كُلّ سُنَّة حَسَنَة , أَوْ سَيِّئَة يُسْتَنّ بِهَا .
وَقِيلَ : هِيَ آثَار الْمَشَّائِينَ إِلَى الْمَسَاجِد . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى
تَأَوَّلَ الْآيَة عُمَر وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر . وَعَنْ اِبْن
عَبَّاس أَيْضًا أَنَّ مَعْنَى : " وَآثَارهمْ " خُطَاهُمْ إِلَى الْمَسَاجِد .
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا أَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ قَالَ : إِنَّ
الْآيَة نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَنْصَار كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ
بَعِيدَةً عَنْ الْمَسْجِد . وَفِي الْحَدِيث مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُكْتَب لَهُ بِرِجْلٍ حَسَنَة وَتُحَطّ
عَنْهُ بِرِجْلٍ سَيِّئُه ذَاهِبًا وَرَاجِعًا إِذَا خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِد ) .
قُلْت : وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : كَانَتْ بَنُو
سَلِمَةَ فِي نَاحِيَة الْمَدِينَة فَأَرَادُوا النُّقْلَة إِلَى قُرْب الْمَسْجِد
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : " إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا
قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( إِنَّ آثَارَكُمْ تُكْتَبُ ) فَلَمْ يَنْتَقِلُوا . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن
غَرِيب مِنْ حَدِيث الثَّوْرِيّ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد
اللَّه قَالَ : أَرَادَ بَنُو سَلِمَة أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْب الْمَسْجِد ;
قَالَ : وَالْبِقَاع خَالِيَة ; قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( يَا بَنِي سَلِمَة دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ
دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ) فَقَالُوا : مَا كَانَ يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا
تَحَوَّلْنَا . وَقَالَ ثَابِت الْبُنَانِيّ : مَشَيْت مَعَ أَنَس بْن مَالِك إِلَى
الصَّلَاة فَأَسْرَعْت , فَحَبَسَنِي فَلَمَّا اِنْقَضَتْ الصَّلَاة قَالَ :
مَشَيْت مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْرَعْت ,
فَحَبَسَنِي فَلَمَّا اِنْقَضَتْ الصَّلَاة قَالَ : ( أَمَا عَلِمْت أَنَّ
الْآثَارَ تُكْتَب ) فَهَذَا اِحْتِجَاج بِالْآيَةِ . وَقَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد
أَيْضًا وَالْحَسَن : الْآثَار فِي هَذِهِ الْآيَة الْخُطَى . وَحَكَى
الثَّعْلَبِيّ عَنْ أَنَس أَنَّهُ قَالَ : الْآثَار هِيَ الْخُطَى إِلَى الْجُمُعَة
. وَوَاحِد الْآثَار أَثَر وَيُقَال أَثْرٌ . الثَّالِثَة فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث
الْمُفَسِّرَة لِمَعْنَى الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْبُعْد مِنْ الْمَسْجِد
أَفْضَل , فَلَوْ كَانَ بِجِوَارِ مَسْجِد , فَهَلْ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهُ إِلَى
الْأَبْعَد ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ , فَرُوِيَ عَنْ أَنَس أَنَّهُ كَانَ يُجَاوِز
الْمُحْدَث إِلَى الْقَدِيم . وَرُوِيَ عَنْ غَيْره : الْأَبْعَد فَالْأَبْعَد مِنْ
الْمَسْجِد أَعْظَم أَجْرًا . وَكَرِهَ الْحَسَن وَغَيْره هَذَا ; وَقَالَ : لَا
يَدَع مَسْجِدًا قُرْبه وَيَأْتِي غَيْره . وَهَذَا مَذْهَب مَالِك . وَفِي
تَخَطِّي مَسْجِده إِلَى الْمَسْجِد الْأَعْظَم قَوْلَانِ . وَخَرَّجَ اِبْن
مَاجَهْ مِنْ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ( صَلَاة الرَّجُل فِي بَيْته بِصَلَاةٍ وَصَلَاته فِي
مَسْجِد الْقَبَائِل بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاة وَصَلَاته فِي الْمَسْجِد الَّذِي
يُجْمَع فِيهِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاة ) . الرَّابِعَة ( دِيَارَكُمْ ) مَنْصُوب
عَلَى الْإِغْرَاء أَيْ اِلْزَمُوا , و ( تُكْتَبْ ) جَزْم عَلَى جَوَاب ذَلِكَ
الْأَمْر . ( وَكُلَّ ) نَصْب بِفِعْلٍ مُضْمَر يَدُلّ عَلَيْهِ " أَحْصَيْنَاهُ "
كَأَنَّهُ قَالَ : وَأَحْصَيْنَا كُلّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ . وَيَجُوز رَفْعه
بِالِابْتِدَاءِ إِلَّا أَنَّ نَصْبه أَوْلَى ; لِيُعْطَفَ مَا عَمِلَ فِيهِ
الْفِعْل عَلَى مَا عَمِلَ فِيهِ الْفِعْل . وَهُوَ قَوْل الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ
. وَالْإِمَام : الْكِتَاب الْمُقْتَدَى بِهِ الَّذِي هُوَ حُجَّة . وَقَالَ
مُجَاهِد وَقَتَادَة وَابْن زَيْد : أَرَادَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقَالَتْ
فِرْقَة : أَرَادَ صَحَائِف الْأَعْمَال .
تفسير
الطبري : الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
الْمَوْتَى وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ فِي
إِمَام مُبِين } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى }
مِنْ خَلْقنَا { وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا } فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْر وَشَرّ ,
وَصَالِح الْأَعْمَال وَسَيِّئِهَا . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22238 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ :
ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَوْله : { إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا } مِنْ عَمَل 22239 حَدَّثَنِي
يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله
: { وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا } قَالَ : مَا عَمِلُوا 22240 حَدَّثَنِي مُحَمَّد
بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي
الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا عَنْ اِبْن
أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَوْله : { مَا قَدَّمُوا } قَالَ : أَعْمَالهمْ
وَقَوْله : { وَآثَارهمْ } يَعْنِي : وَآثَار خُطَاهُمْ بِأَرْجُلِهِمْ , وَذُكِرَ
أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي قَوْم أَرَادُوا أَنْ يَقْرَبُوا مِنْ مَسْجِد
رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِيَقْرُب عَلَيْهِمْ. ذِكْر
مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22241 حَدَّثَنَا نَصْر بْن عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ , قَالَ :
ثنا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : ثنا إِسْرَائِيل , عَنْ سِمَاك , عَنْ
عِكْرِمَة , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : كَانَتْ مَنَازِل الْأَنْصَار
مُتَبَاعِدَة مِنْ الْمَسْجِد , فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى الْمَسْجِد
فَنَزَلَتْ { وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ } فَقَالُوا : نَثْبُت فِي
مَكَاننَا * حَدَّثَنَا اِبْن وَكِيع , قَالَ : ثنا أَبِي , عَنْ إِسْرَائِيل ,
عَنْ سِمَاك , عَنْ عِكْرِمَة , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : كَانَتْ الْأَنْصَار
بَعِيدَة مَنَازِلهمْ مِنْ الْمَسْجِد , فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا , قَالَ :
فَنَزَلَتْ { وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ } فَثَبَتُوا 22242 حَدَّثَنَا
اِبْن الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا عَبْد الصَّمَد , قَالَ : ثنا شُعْبَة , قَالَ :
ثنا الْجُرَيْرِيّ , عَنْ أَبِي نَضْرَة , عَنْ جَابِر , قَالَ : أَرَادَ بَنُو
سَلَمَة قُرْب الْمَسْجِد , قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا بَنِي سَلَمَة ! دِيَاركُمْ , إِنَّهَا تُكْتَب
آثَاركُمْ " . 22243 حَدَّثَنَا اِبْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا مُعْتَمِر
, قَالَ : سَمِعْت كَهْمَسًا يُحَدِّث , عَنْ أَبِي نَضْرَة , عَنْ جَابِر , قَالَ
: أَرَادَ بَنُو سَلَمَة أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْب الْمَسْجِد , قَالَ :
وَالْبِقَاع خَالِيَة , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ , فَقَالَ : " يَا بَنِي سَلَمَة ! إِنَّهَا تُكْتَب آثَاركُمْ " قَالَ :
فَأَقَامُوا وَقَالُوا : مَا يَسُرّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا . 22244
حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن عُمَر بْن خَالِد الرَّقِّيّ , قَالَ : ثنا اِبْن
الْمُبَارَك , عَنْ سُفْيَان , عَنْ طَرِيف , عَنْ أَبِي نَضْرَة , عَنْ أَبِي
سَعِيد الْخُدْرِيّ , قَالَ : شَكَّتْ بَنُو سَلَمَة بُعْد مَنَازِلهمْ إِلَى
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَتْ : { إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُب مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ } فَقَالَ : " عَلَيْكُمْ
مَنَازِلكُمْ تُكْتَب آثَاركُمْ " 22245 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا
أَبُو تُمَيْلة , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , عَنْ ثَابِت , قَالَ : مَشَيْت مَعَ
أَنَس , فَأَسْرَعْت الْمَشْي , فَأَخَذَ بِيَدِي , فَمَشَيْنَا رُوَيْدًا ,
فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاة قَالَ أَنَس : مَشَيْت مَعَ زَيْد بْن ثَابِت ,
فَأَسْرَعْت الْمَشْي , فَقَالَ : يَا أَنَس أَمَا شَعُرْت أَنَّ الْآثَار تُكْتَب
22246 حَدَّثَنِي يَعْقُوب , قَالَ : ثنا اِبْن عُلَيَّة , عَنْ يُونُس , عَنْ
الْحَسَن أَنَّ بَنِي سَلَمَة كَانَتْ دُورهمْ قَاصِيَة عَنْ الْمَسْجِد ,
فَهَمُّوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا قُرْب الْمَسْجِد , فَيَشْهَدُونَ الصَّلَاة مَعَ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَاركُمْ يَا بَنِي سَلَمَة ؟
" فَمَكَثُوا فِي دِيَارهمْ 22247 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا حَكَّام
, عَنْ عَنْبَسَة , عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ الْقَاسِم اِبْن
أَبِي بَزَّة , عَنْ مُجَاهِد , فِي قَوْله { مَا قَدَّمُوا وَآثَارهمْ } قَالَ :
خُطَاهُمْ بِأَرْجُلِهِمْ * حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو
عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن ,
قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد {
وَآثَارهمْ } قَالَ : خُطَاهُمْ 22248 حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد ,
قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَآثَارهمْ } قَالَ : قَالَ الْحَسَن :
وَآثَارهمْ قَالَ : خُطَاهُمْ . وَقَالَ قَتَادَة : لَوْ كَانَ مُغْفِلًا شَيْئًا
مِنْ شَأْنك يَا اِبْن آدَم أَغْفَلَ مَا تَعْفِي الرِّيَاح مِنْ هَذِهِ الْآثَار
وَقَوْله : { وَكُلّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين } يَقُول تَعَالَى
ذِكْره : وَكُلّ شَيْء كَانَ أَوْ هُوَ كَائِن أَحْصَيْنَاهُ , فَأَثْبَتْنَاهُ فِي
أُمّ الْكِتَاب , وَهُوَ الْإِمَام الْمُبِين . وَقِيلَ : { مُبِين } لِأَنَّهُ
يُبَيِّن عَنْ حَقِيقَة جَمِيع مَا أَثْبَتَ فِيهِ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا
فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22249 حَدَّثَنَا
اِبْن بَشَّار , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّحْمَن , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ
مَنْصُور , عَنْ مُجَاهِد { فِي إِمَام مُبِين } قَالَ : فِي أُمّ الْكِتَاب 22250
حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة ,
قَوْله : { وَكُلّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين } كُلّ شَيْء مَحْصِيّ
عِنْد اللَّه فِي كِتَاب 22251 حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن
وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { وَكُلّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ
فِي إِمَام مُبِين } قَالَ : أُمّ الْكِتَاب الَّتِي عِنْد اللَّه فِيهَا
الْأَشْيَاء كُلّهَا هِيَ الْإِمَام الْمُبِين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق