الثلاثاء، 26 فبراير 2013

نعم للمحاسبة‏..‏ لا للانتقام

نعم للمحاسبة‏..‏ لا للانتقام
بقلم: شريف الشوباشي
عندما انتهت الحرب العالمية الأولي عام‏1918‏ بهزيمة ألمانيا واستسلامها لم يفكر الحلفاء المنتصرون في محاسبة إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني أو السلطان العثماني في تركيا ولا في محاكمة كل من تسببوا في الحرب والدمار‏
‏ واكتفي المنتصرون في مؤتمر فرساي عام‏1919‏ بوضع شروط مجحفة علي ألمانيا وإجراءات أمنية تصوروا أنها ستجهض أي محاولة أخري لإشعال فتنة الحرب في العالم‏.‏
لذلك عندما حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها كانت المحاسبة من أهم هواجس الحلفاء لمنع تكرار المأساة لأنهم أدركوا أن اتخاذ التدابير الأمنية لا تكفي لمنع إعادة الكرة‏,‏ وليست رادعة بما فيه الكفاية‏.‏ وكانت محاكمات نورمبرج الشهيرة هي الوسيلة التي ارتآها الحلفاء لكي يفكر كل من تسول له نفسه في المستقبل انتهاج سبيل الحرب والفتنة مئات المرات حتي لا يلقي مصير هتلر المنتحر أو رجاله الذين حوكموا في نورمبرج‏.‏ لم يكن منطق الحلفاء يقوم علي الانتقام والتشفي لكن رؤيتهم كانت سياسية‏,‏ بمعني أنه لو ترك المذنبون دون عقاب فسوف يظهر آخرون يقترفون نفس الجرائم دون الخوف من العواقب‏.‏
وقد اضطر غالبية أفراد أسر القادة النازيين الذين حوكموا في نورمبرج إلي تغيير أسمائهم لأنها أصبحت وصمة عار في جبينهم باستثناء أسرة روميل ثعلب الصحراء‏.‏
وللأسف أن ثقافتنا تقوم علي مقولة عفا الله عما سلف التي من المفترض انها كانت تطبق علي حقبة العصر الجاهلي‏,‏ ومع أناس لم يبلغوا بالرسالة‏,‏ فكان من الطبيعي العفو عن أخطائهم عند ظهور الإسلام‏.‏
ولو تمت محاسبة الذين أدخلوا في روع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أن الأعداء يتربصون بالثورة‏,‏ وبالتالي فلا بد من الفتك بهم‏..‏ ولو تمت محاسبة الرجل الذي وقف يهتف في مجلس الشعب في السبعينات قائلا للرئيس الراحل السادات نريدك رئيسا مدي الحياة‏..‏ ولو تمت محاسبة الذين أوهموا السادات بأنه زعيم ملهم لربما تغيرت أمور كثيرة في حياتنا السياسية‏.‏
ولو تركنا الآن الذين استهتروا واستهزأوا بالشعب المصري وعاثوا فسادا واستباحوا كل الحرمات واستهانوا بالقانون وبالأخلاق فإننا نفتح الباب لتكرار مثل ذلك في المستقبل القريب أو المتوسط‏,‏ وقد يأتي اليوم الذي نفاجأ فيه بظهور من ينادي برئيس آخر مدي الحياة‏.‏
وفي رأيي أن المحاسبة التي تحدث الآن هي أقرب إلي الانتقام‏,‏ وتصفية الحسابات وتقديم بعض أكباش الفداء‏.‏ واللافت للنظر أن ما يحدث الآن يتركز في جانب واحد وهو الفساد وإهدار المال العام والتربح وكلها جرائم خطيرة لا بد من محاسبة مرتكبيها‏.‏ لكن هذا في رأيي ليس الأساس‏.‏ فكل هذه الجرائم لم يكن من الممكن أن تقترف في حق الشعب لولا أنه تمت عملية تخريب منهجية لعقل الإنسان المصري وبث أفكار مدمرة ومخدرة تولاها المسئولون عن الإعلام والثقافة والتعليم‏.‏ كل هذا لم يكن من الممكن أن يحدث لولا وجود مناخ فاسد وتدمير للقيم الأخلاقية واستهزاء بالمثل العليا ولولا رجال وضعوا تشريعات فاسدة لتقنين النهب وبيع ثروات مصر من الأراضي والمصانع والمنشآت‏.‏
والأولي بالمحاسبة هم الذين ساهموا في تخريب عقل المجتمع وجعلوا الناس تتصور أن ما يحدث قدر مكتوب في كبد السماء‏,‏ وأنه لا فائدة من الاعتراض والصياح لأن طاعة أولي الأمر من مبادئ الدين الإسلامي‏,‏ وأن تعليمات وتوجيهات الرئيس مبارك هي التي تنقذ مصر من الخراب‏.‏
وأنا لا أطالب بإعدام أحد لأنني ضد عقوبة الإعدام من الأساس‏.‏ ولا أطالب حتي بالسجن والانتقام‏.‏ لكني أطالب بكشف ستر من بثوا السموم وخلقوا المناخ الذي سمح بالفساد والرشوة والاستيلاء علي أراضي الدولة والإثراء غير المشروع وترك الملايين يرزحون تحت خط الفقر ويعانون من أبشع ألوان الحرمان‏.‏ أطالب بافتضاح أمرهم وبتعرية المواقف الخبيثة وسياسة قمع الشرفاء وشراء ضعاف النفوس ودق الإسفين بين المثقفين وإثارة البلبلة الفكرية والتشهير بكل من حاول أن يقول كلمة الحق ولو علي استحياء‏.‏
لا بد من محاسبة الرجل الذي تربع علي الإعلام المصري لما يزيد علي ربع قرن فكان مايسترو مخطط تخريب العقل المصري وهو صفوت الشريف وخليفته الذي أخفي الحقائق عن الشعب وجعل من التلفزيون أداة للكذب والتدليس وهو أنس الفقي‏.‏ وقد قاد هذا الأخير حملات تشويه وتشكيك تشبه عمليات الحرب النفسية التي كان يقوم بها النازيون ومنها الحملة علي الجزائر في تصفيات كأس العالم لكرة القدم‏.‏ وأطالب بمحاسبة وزير الثقافة السابق فاروق حسني الذي قضي هو الآخر في منصبه نحو ربع قرن وصل فيه الانحطاط الفني والثقافي إلي أسفل الدرك‏.‏
ويشرفني أنني أرسلت استقالة مكتوبة من مهرجان السينما عن طريق أحد العاملين معي ليد وزير الثقافة منذ خمس سنوات‏.‏ كذلك أطالب بمحاسبة غيابية لكمال الشاذلي الذي كان مهندس عمليات التزوير والغش وقد تفنن طوال حياته في فبركة عشرات الانتخابات‏.‏ وبرغم وفاته الحديثة فإن محاكمته ستكون عبرة لمن يعتبر‏.‏
ويبدو الأمر وكأن تقديم حبيب العادلي للتحقيق هو بمثابة تبرئة لكافة العاملين بالأجهزة الأمنية وهو أمر غير صحيح‏.‏ أطالب بمحاسبة كل من أرهبوا الشعب المصري خلال ربع القرن الأخير ومن تسببوا في قتل شهداء ثورة‏52‏ يناير‏.‏ وهناك صور فيديو مفزعة لعمليات القتل والضرب شاهدناها جميعا‏,‏ ومن الممكن التعرف علي هويات مرتكبي هذه الجرائم ومحاكمتهم‏.‏
أطالب بمحاسبة من فصلوا القوانين التي جعلت الفساد حلالا مشروعا والنهب في وضح النهار أمرا معترفا به‏.‏ أطالب بمحاسبة كل من تسبب في تضليل المجتمع‏,‏ وكل من أفشل مشروعا مفيدا للناس نظرا لأن كبار المسئولين لن يخرجوا منه بفائدة‏.‏ ولا أطالب بإدانة الجميع بطريقة عشوائية والقيام بما يطلق عليه مطاردة الساحرات‏.‏ فقد يكون هناك أبرياء وضعتهم الأقدار في مواقع تحوم حولها الشبهات لكنهم لم يقترفوا ما يستلزم العقاب‏.‏
وأقول إنه من الطبيعي في هذه الظروف أن تظهر نزعات الانتقام والتشفي‏..‏ بعضها من الذين لاقوا الظلم والعسف بالفعل لكن بعضها الآخر من أناس لديهم الرغبة في الإيذاء والانتقام‏.‏ لذلك علينا أن نكون حذرين ونؤكد ضرورة المحاسبة الصارمة بشرط توفر أدلة الإدانة وعدم الإذعان للمهيجين ومثيري الفتن وما أكثرهم في هذه الأيام‏.‏
أما الذين يطالبون بطي صفحة الماضي ويشيعون أنه لا بد من نسيان ما حدث‏,‏ والاكتفاء بالنظر للمستقبل فأقول لهم بأعلي صوت‏:‏ أنتم تهيئون الأجواء لكارثة جديدة ستدمر كل الآثار الإيجابية للثورة‏.‏ أنتم تفتحون المجال لأن تعود علينا الدوائر ويشعر المنافقون والمستفيدون في العصر المقبل بالاطمئنان علي أنفسهم والثقة بأنهم لن يقعوا تحت طائلة المحاسبة‏.‏
المزيد من مقالات شريف الشوباشي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق