الثلاثاء، 19 فبراير 2013

تفسير سورة يس 8/8

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ}
تفسير ابن كثير :
يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم { فَهُمْ لَهَا مَـلِكُونَ} قال قتادة: مطيقون، أي جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم، لا تمتنع منهم، بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه، ولوشاء لأقامه وساقه، وذاك ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير. وقوله تعالى: { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي منها ما يركبون في الأسفار ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} إذا شاؤوا ونحروا واجتزروا { وَلَهُمْ فِيهَا مَـنافِعُ} أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين أي من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك، { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أي أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره؟.
تفسير القرطبي :
قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ }.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} هذه رؤية القلب؛ أي أو لم ينظروا ويعتبروا ويتفكروا. {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة. و «ما» بمعنى الذي وحذفت الهاء لطول الاسم. وإن جعلت «ما» مصدرية لم تحتج إلى إضمار الهاء. {أَنْعاماً} جمع نعم والنعم مذكر. {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ضابطون قاهرون. {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} أي سخرناها لهم حتى يقود الصبي الجمل العظيم ويضربه ويصرّفه كيف شاء لا يخرج من طاعته. {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} قراءة العامة بفتح الراء؛ أي مركوبهم، كما يقال: ناقة حَلوب أي محلوب. وقرأ الأعمش والحسن وابن السَّمَيْقَع: «فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ» بضم الراء على المصدر. وروي عن عائشة أنها قرأت: «فَمِنْهَا رَكُوبَتُهُمْ» وكذا في مصحفها. والرَّكوب والرَّكوبة واحد، مثل الحَلوب والحَلوبة، والحمَول والحمَولة. وحكى النحويون الكوفيون: أن العرب تقول: امرأة صَبور وشَكور بغير هاء. ويقولون: شاة حَلوبة وناقة رَكوبة؛ لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعاً عليه، فحذفوا الهاء مما كان فاعلاً وأثبتوها فيما كان مفعولاً؛ كما قال:
فيها اثنتانِ وأربعون حَلُوبَةً
سُودًا كخافيةِ الغرابِ الأَسْحَمِ
فيجب أن يكون على هذا رَكوبتهم. فأما البصريون فيقولون: حذفت الهاء على النسب. والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحد والجماعة، والرَّكُوب لا يكون إلا للجماعة. فعلى هذا يكون لتذكير الجمع. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز «فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ» بضم الراء لأنه مصدر؛ والرَّكُوب ما يركب. وأجاز الفرّاء «فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ» بضم الراء، كما تقول فمنها أكلهم ومنها شربهم. {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} من لحومها {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} من أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها ولحومها وغير ذلك. {وَمَشَارِبُ} يعني ألبانها؛ ولم ينصرفا لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد. {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} الله على نعمه.
تفسير ابن جرير الطبري :
القول في تأويل قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}.
يقول تعالى ذكره: أوَ لَمْ يَرَ هؤلاء المشركون بالله الآلهة والأوثانَ أنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أيْدِينا يقول: مما خلقنا من الخلق أنْعاما وهي المواشي التي خلقها الله لبني آدم، فسخَّرها لهم من الإبل والبقر والغنم فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ يقول: فهم لها مصرّفون كيف شاءوا بالقهر منهم لها والضبط، كما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فَهَمُ لَهَا مالِكُونَ: أي ضابطون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أوَ لَمْ يَرَوْا أنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعاما فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ فقيل له: أهي الإبل؟ فقال: نعم، قال: والبقر من الأنعام، وليست بداخلة في هذه الآية، قال: والإبل والبقر والغنم من الأنعام، وقرأ: ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ قال: والبقر والإبل هي النعم، وليست تدخل الشاء في النعم.
وقوله: وَذَلَّلْناها لَهُمْ يقول: وذللنا لهم هذه الأنعام فَمِنْها رَكُوبُهُمْ يقول: فمنها ما يركبون كالإبل يسافرون عليها يقال: هذه دابة ركوب، والرُّكوب بالضمّ: هو الفعل وَمِنْها يأْكُلونَ لحومها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوُبُهُمْ: يركبونها يسافرون عليها وَمِنْها يأْكُلُونَ لحومها.
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ}.
يقول تعالى ذكره: ولهم في هذه الأنعام منافع، وذلك منافع في أصوافها وأوبارها وأشعارها باتخاذهم من ذلك أثاثا ومتاعا، ومن جلودها أكنانا، ومشارب يشربون ألبانها، كما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ولَهُمْ فِيها مَنافِعُ يَلْبسون أصوافها وَمَشارِبُ يشربون ألبانها.
وقوله: أفَلا يَشْكُرُونَ يقول: أفلا يشكرون نعمتي هذه، وإحساني إليهم بطاعتي، وإفراد الألوهية والعبادة، وترك طاعة الشيطان وعبادة الأصنام.
قوله: واتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً يقول: واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونها لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ يقول: طمعا أن تنصرهم تلك الآلهة من عقاب الله وعذابه.
{وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ * فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}
تفسير ابن كثير :
يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى، قال الله تعالى: { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ} أي لاتقدر الآلهة على نصر عابديها بل هي أضعف من ذلك وأقل وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الانتصار لأنفسها، ولا الإنتقام ممن أرادها بسوء، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.
وقوله تبارك وتعالى: { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} قال مجاهد: يعني عند الحساب يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة محضرة عند حساب عابديها، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم. وقال قتادة { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ} يعني الآلهة { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً، إنما هي أصنام، وهكذا قال الحسن البصري، وهذا القول حسن، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله تعالى. وقوله تعالى: { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} أي تكذيبهم لك وكفرهم بالله { إِنَّا نَعْلَمُ يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي نحن نعلم جميع ما هم فيه، وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم على ذلك يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلاً ولا حقيراً ولا صغيراً ولا كبيراً بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديماً وحديثاً.
تفسير القرطبي :
قوله تعالى:
{وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ * فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }.
قوله تعالى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} أي قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل. {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي لما يرجون من نصرتها لهم إن نزل بهم عذاب. ومن العرب من يقول: لعله أن يفعل. {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} يعني الآلهة. وجمعوا بالواو والنون؛ لأنه أخبر عنهم بخبر الآدميين. {وَهُمْ} يعني الكفار {لَهُمْ} أي للآلهة، {جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم. وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا. وقيل: المعنى أنهم يعبدون الآلهة ويقومون بها؛ فهم لها بمنزلة الجند وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وقيل: إن الآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم ويتبرءون من عبادتهم. وقيل: الآلهة جند لهم محضرون يوم القيامة لإعانتهم في ظنونهم. وفي الخبر: إنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله فيتبعونه إلى النار؛ فهم لهم جند محضرون.
قلت: ومعنى هذا الخبر ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وفي الترمذي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يَطَّلِع عليهم ربُّ العالمين فيقولُ أَلاَ لِيتبعْ كلُّ إنسانٍ ما كان يعبد فيُمثَّل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون» وذكر الحديث بطوله. {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} هذه اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول يُحزِنك. والمراد تسلية نبيه عليه السلام؛ أي لا يحزنك قولهم شاعر ساحر. وتم الكلام، ثم استأنف فقال: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} من القول والعمل وما يظهرون فنجازيهم بذلك.
تفسير ابن جرير الطبري :
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ}.
يقول تعالى ذكره: ولهم في هذه الأنعام منافع، وذلك منافع في أصوافها وأوبارها وأشعارها باتخاذهم من ذلك أثاثا ومتاعا، ومن جلودها أكنانا، ومشارب يشربون ألبانها، كما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ولَهُمْ فِيها مَنافِعُ يَلْبسون أصوافها وَمَشارِبُ يشربون ألبانها.
وقوله: أفَلا يَشْكُرُونَ يقول: أفلا يشكرون نعمتي هذه، وإحساني إليهم بطاعتي، وإفراد الألوهية والعبادة، وترك طاعة الشيطان وعبادة الأصنام.
قوله: واتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً يقول: واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونها لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ يقول: طمعا أن تنصرهم تلك الآلهة من عقاب الله وعذابه.
{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُل خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم منَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم منْه تُوقِدُونَ}
تفسير ابن كثير :
قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدي وقتادة: جاء أبي بن خلف لعنه الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتنه ويذريه في الهواء، وهو يقول: يامحمد أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» ونزلت هذه الآيات من آخر يس { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ} إلى آخرهن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا عثمان بن سعيد الزيات عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما أرى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم يميتك الله، ثم يحييك، ثم يدخلك جهنم» قال: ونزلت الآيات من آخر يس، ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير فذكره ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما.
وروي من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء عبد الله بن أبي بعظم ففته وذكر نحو ما تقدم، وهذا منكر، لأن السورة مكية وعبد الله بن أبي بن سلول إنما كان بالمدينة، وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أبي بن حلف أو العاص بن وائل أو فيهما، فهي عامة في كل من أنكر البعث، والألف واللام في قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَـنُ} للجنس يعم كل منكر للبعث { أَنَّا خَلَقْنَـهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} أي أولم يستدل من أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين، كماقال عز وجل: { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَـهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} وقال تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَـنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي من نطفة من أخلاط متفرقة، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته.
كما قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا حريز، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بشر بن جحاش قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بصق يوماً في كفه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ؟» ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن جرير بن عثمان به، ولهذا قال تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَـمَ وَهِىَ رَمِيمٌ} أي استبعد إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة التي خلقت السماوات والأرض للأجسام والعظام الرميمة، ونسي نفسه، وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده، ولهذا قال عز وجل: { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها، أين ذهبت وأين تفرقت وتمزقت.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي قال: قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي الله عنهما: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «إن رجلاً حضره الموت فلما أيس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً جزلاً، ثم أوقدوا فيه ناراً حتى إذ أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت، فخذوها فدقوها فذروها في اليم، ففعلوا، فجمعه الله تعالى إليه ثم قال له: لم فعلت ذلك ؟ قال: من خشيتك، فغفر الله عز وجل له» فقال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ذلك وكان نباشاً، وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الملك بن عمير بألفاظ كثيرة منها أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر في يوم رائح، أي كثير الهواء، ففعلوا ذلك، فأمر الله تعالى البحر، فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا هو رجل قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: مخافتك وأنت أعلم، فما تلافاه أن غفر له.
وقوله تعالى: { الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأٌّخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضراً نضراً ذا ثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطباً يابساً توقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد لايمنعه شيء. قال قتادة في قوله { الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأٌّخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} يقول الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه، وقيل: المراد بذلك سرح المرخ والعفار ينبت في أرض الحجاز، فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد سواء، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفي المثل: لكل شجر نار واستمجد المرخ والعفار. وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا الغاب.
تفسير القرطبي :
قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ }.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ} قال ابن عباس: الإنسان هو عبد الله بن أُبَيّ. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السَّهْمي. وقال الحسن: هو أُبَيّ بن خلف الجُمَحي. وقاله ابن إسحاق، ورواه ابن وهب عن مالك. {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} وهو اليسير من الماء؛ نطف إذا قطر. {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} أي مجادل في الخصومة مبين للحجة. يريد بذلك أنه صار بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً خصيماً مبيناً. وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل فقال: يا محمد أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رَم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم ويبعثك الله ويدخلك النار» فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }.
قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي ونسي أنا أنشأناه من نطفة ميتة فركبنا فيه الحياة. أي جوابه من نفسه حاضر؛ ولهذا قال عليه السلام: «نعم ويبعثك الله ويدخلك النار» ففي هذا دليل على صحة القياس؛ لأن الله جل وعز احتج على منكري البعث بالنشأة الأولى. {قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي بالية. رَمَّ العظمُ فهو رَميمٌ ورِمَام. وإنما قال رميم ولم يقل رميمة؛ لأنها معدولة عن فاعلة، وما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه؛ كقوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} (مريم: 28) أسقط الهاء؛ لأنها مصروفة عن باغية. وقيل: إن هذا الكافر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن سحقتها وأذريتها في الريح أيعيدها الله فنزلت: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي من غير شيء فهو قادر على إعادتها في النشأة الثانية من شيء وهو عَجْم الذَّنَب. ويقال عَجْبُ الذَّنَب بالباء. {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي كيف يبدىء ويعيد.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن في العظام حياة وأنها تنجس بالموت. وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا حياة فيها. وقد تقدّم هذا في «النحل». فإن قيل: أراد بقوله {مَن يُحيِي الْعِظَامَ} أصحاب العظام، وإقامة المضاف مقام المضاف إليه كثير في اللغة، موجود في الشريعة. قلنا: إنما يكون إذا احتيج لضرورة وليس هاهنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار، ولا يفتقر إلى هذا التقدير، إذ الباري سبحانه قد أخبر به وهو قادر عليه والحقيقة تشهد له؛ فإن الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه؛ قاله ابن العربي.
تفسير ابن جرير الطبري :
القول في تأويل قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}.
يقول تعالى ذكره: أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنَّا خَلَقْناهُ. واختُلف في الإنسان الذي عُني بقوله: أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ فقال بعضهم: عُني به أُبّي بن خلف. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عُمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي يحيى عن مجاهد، في قوله: مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قال: أُبيّ بن خَلَف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَظْم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَضَرَبَ لنَا مَثَلاً أُبيّ بن خلف.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قالَ مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ: ذُكر لنا أن أُبيَّ بن خلف، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل، ففتَّه، ثم ذرّاه في الريح، ثم قال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم؟ قال: «الله يحييه، ثم يميته، ثم يُدخلك النار» قال: فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد.
وقال آخرون: بل عُني به: العاص بن وائل السَّهميّ. ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: جاء العاص بن وائل السهميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظّم حائل، ففتَّه بين يديه، فقال: يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما أرمّ؟ قال: «نَعَمْ يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا، ثُمَّ يُمِتُكَ ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُم يُدْخِلُكَ نارَ جَهَنَّم» قال: ونزلت الآيات: أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ…» إلى آخر الآية.
وقال آخرون: بل عُنِي به: عبد الله بن أُبيّ. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ… إلى قوله: وَهِيَ رَمِيمٌ قال: جاء عبد الله بن أُبيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل فكسره بيده، ثم قال: يا محمد كيف يبعث الله هذا وهو رميم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا، ويُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ»، فقال الله: قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنشأها أوَّلَ مَرَّةٍ وَهُو بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
فتأويل الكلام إذن: أو لم ير هذا الإنسان الذي يقول: مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أنا خلقناه من نطفة فسوّيناه خلقا سَوِيًّا فإذَا هوَ خَصِيمٌ يقول: فإذا هو ذو خصومة لربه، يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد مماتهم، فيقول: مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم؟ إنكارا منه لقُدرة الله على إحيائها.
وقوله: مُبِينٌ يقول: يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه. وقوله: وَضَرَبَ لنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ يقول: ومثَّل لنا شبها بقوله: مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ إذ كان لا يقدر على إحياء ذلك أحد، يقول: فجعلنا كمن لا يقدر على إحياء ذلك من الخلق وَنَسِيَ خَلْقَهُ يقول: ونسي خلْقنَا إياه كيف خلقناه، وأنه لم يكن إلا نطفة، فجعلناها خلقا سَوِيًّا ناطقا، يقول: فلم يفكر في خلقناه، فيعلم أن من خلقه من نطفه حتى صار بشرا سويا ناطقا متصرّفا، لا يعْجِز أن يعيد الأموات أحياء، والعظام الرَّميم بشَرا كهيئتهم التي كانوا بها قبل الفناء يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ لهذا المشرك القائل لك: من يُحيي العظام وهي رميم يُحْيِيها الَّذِي أنشأَها أوَّلَ مَرَّةٍ يقول: يحييها الذي ابتدع خلْقها أوّل مرّة ولم تكن شيئا وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يقول: وهو بجميع خلقه ذو علم كيف يميت، وكيف يحيي، وكيف يبدىء، وكيف يعيد، لا يخفى عليه شيء من أمر خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ}.
يقول تعالى ذكره: قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَر نارا يقول: الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر نارا تُحْرق الشجر، لا يمتنع عليه فعل ما أراد، ولا يعجز عن إحياء العظام التي قد رَمَّت، وإعادتها بشَرا سويا، وخلقا جديدا، كما بدأها أوّل مرّة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نارا يقول: الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر أن يبعثه.
قوله: فإذَا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ يقول: فإذا أنتم من الشجر توقدون النار وقال: مِنْهُ والهاء من ذكر الشجر، ولم يقل: منها، والشجر جمع شجرة، لأنه خرج مخرج الثمر والحصَى، ولو قيل: منها كان صوابا أيضا، لأن العرب تذكِّر مثل هذا وتؤنِّثه. وقوله: أوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ يقول تعالى ذكره منبها هذا الكافر الذي قال: مَنْ يُحْيي العِظامَ وَهيَ رَميمٌ على خطأ قوله، وعظيم جهله أوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات السبع والأرْضَ بقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مثلكم، فإن خلق مثلكم من العظام الرميم ليس بأعظم من خلق السموات والأرض. يقول: فمن لم يتعذّر عليه خلق ما هو أعظم من خلقكم، فكيف يتعذّر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمَّت وبَلِيَت؟ وقوله: بلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَليمُ يقول: بلى هو قادر على أن يخلق مثلهم وهو الخلاق لما يشاء، الفعَّال لما يريد، العليم بكلّ ما خلق ويخلق لا يخفى عليه خافية.
{أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُل شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
تفسير ابن كثير :
يقول تعالى مخبراً منبهاً على قدرته العظيمة في خلق السماوات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت والأرضين السبع، وما فيه من جبال ورمال وبحار وقفار، وما بين ذلك، ومرشداً إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة، كقوله تعالى: { لَخَلْقُ السموات وَالأٌّرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقال عز وجل ههنا: { أَوَلَـيْسَ الَذِى خَلَقَ السمواتِ وَالأٌّرْضَ بِقَـدِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} أي مثل البشر، فيعيدهم كما بدأهم، قاله ابن جرير: وهذه الآية الكريمة كقوله عز وجل: { الَّذِينَ * إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وقال تبارك وتعالى ههنا { بَلَى وَهُوَ الْخَلَّـقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي إنما يأمر بالشيء أمراً واحداً لا يحتاج إلى تكرار أو تأكيد:
إذا ما أراد الله أمراً فإنما
يقول له كن قولة فيكون
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن نمير، حدثنا موسى بن المسيب عن شهر عن عبد الرحمن بن غنْم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول: ياعبادي كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، إني جواد ماجد واجد أفعل ما أشاء، عطائي كلام وعذابي كلام، إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون».
وقوله تعالى: { فَسُبْحَـنَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي تنزيه وتقديس وتبرئة من السوء للحي القيوم الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، وله الخلق والأمر وإليه يرجع العباد يوم المعاد، فيجازي كل عامل بعمله وهو العادل المنعم المتفضل. ومعنى قوله سبحانه وتعالى: { فَسُبْحَـنَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} كقوله عز وجل { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} وكقوله تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ} فالملك والملكوت واحد في المعنى كرحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت، ومن الناس من زعم أن الملك هو عالم الأجساد، والملكوت هو عالم الأرواح، والصحيح الأول، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا حماد عن عبد الملك بن عمير، حدثني ابن عم لحذيفة عن حذيفة وهو ابن اليمان رضي الله عنه، قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه، من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ثم قال: «الحمد لله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فأنصرف وقد كادت تنكسر رجلاي. وقد روى أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة مولى الأنصار، عن رجل من بني عبس عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، وكان يقول: «الله أكبر ثلاثاً ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، وكان يقول في ركوعه «سبحان ربي العظيم» ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحواً من ركوعه وكان يقول «لربي الحمد» ثم سجد فكان سجوده نحواً من قيامه، وكان يقول في سجوده: «سبحان ربي الأعلى» ثم رفع رأسه من السجود وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده، وكان يقول رب اغفر لي، رب اغفر لي» فصلى أربع ركعات فقرأ فيهن البقرة، وآل عمران ، والنساء والمائدة أو الأنعام شك شعبة هذا لفظ أبي داود وقال النسائي: أبو حمزة عندنا طلحة بن يزيد، وهذا الرجل يشبه أن يكون صلة، كذا قال، والأشبه أن يكون ابن عم حذيفة، كما تقدم في رواية الإمام أحمد، والله أعلم. وأما رواية صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه، فإنها في صحيح مسلم، ولكن ليس فيها ذكر الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس عن عاصم بن حميد عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة» ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة، ورواه الترمذي في الشمائل والنسائي من حديث معاوية بن صالح به.
قوله تعالى:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.
تفسير القرطبي :
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً} نبّه تعالى على وحدانيته، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرِق اليابس من العود النديّ الرطب. وذلك أن الكافر قال: النطفة حارة رطبة بطبع الحياة فخرج منها الحياة، والعظم بارد يابس بطبع الموت فكيف تخرج منه الحياة فأنزل الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً} أي إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار؛ فهو القادر على إخراج الضد من الضد، وهو على كل شيء قدير. ويعني بالآية ما في المَرْخ والعَفَار، وهي زنادة العرب؛ ومنه قولهم: في كل شجر نار واسْتَمجَد المَرْخُ والعَفَار؛ فالعَفَار الزَّنْد وهو الأعلى، والمَرْخ الزَّنْدة وهي الأسفل؛ يؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار. وقال: {مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ} ولم يقل الخضراء وهو جمع، لأنه رده إلى اللفظ. ومن العرب من يقول: الشجر الخضراء؛ كما قال عز وجل: {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍفَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} (الواقعة: 52 53). ثم قال تعالى محتجاً {أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} أي أمثال المنكرين للبعث. وقرأ سلاّم أبو المنذر ويعقوب الحضرمي: «يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» على أنه فِعْل. {بَلَى} أي إن خلق السموات والأرض أعظم من خلقهم؛ فالذي خلق السموات والأرض يقدر على أن يبعثهم. {وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} وقرأ الحسن باختلاف عنه «الْخَالِقُ».
قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} قرأ الكسائي «فَيَكُونَ» بالنصب عطفاً على «يقول» أي إذا أراد خلق شيءٍ لا يحتاج إلى تعب ومعالجة. وقد مضى هذا في غير موضع. {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} نزّه نفسه تعالى عن العجز والشرك. وملَكوتُ وَمَلَكُوتَي في كلام العرب بمعنى ملك. والعرب تقول: جَبَرُوتَي خيرٌ مِن رَحَمُوتَي. وقال سعيد عن قتادة: «مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» مفاتح كل شيء. وقرأ طلحة بن مصرِّف وإبراهيم التيمي والأعمش، «مَلَكَةُ»، وهو بمعنى ملكوت إلا أنه خلاف المصحف. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي تردّون وتصيرون بعد مماتكم. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ السُّلَميّ وزِرّ بن حُبيش وأصحاب عبد الله «يَرْجعُونَ» بالياء على الخبر.
تفسير ابن جرير الطبري :
القول في تأويل قوله تعالى:
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
يقول تعالى ذكره: إنَّمَا أمْرهُ إذَا أرَادّ شَيْئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وكان قتادة يقول في ذلك ما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة أوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَمَوَاتِ والأرْضَ بقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ قال: هذا مثل إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، قال: ليس من كلام العرب شيء هو أخفّ من ذلك، ولا أهون، فأمر الله كذلك.
وقوله: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ يقول تعالى ذكره: فتنزيه الذي بيده ملك كلّ شيء وخزائنه. وقوله: وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ يقول: وإليه تردّون وتصيرون بعد مماتكم.
تم بحمد الله
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق