الخميس، 1 مايو 2014

الشهاب المنير فيما جاء عن الحلق والتقصير 1


الشِّهَابُ الْمُنِيرُ

فيما جاء عن الحلق والتقصير
في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المشرفة
***
إعداد
العبد الفقير إلى الله تعالى
صبري الصبري
***
أولا : الحلق والتقصير في القواميس اللغوية
الحلق
حَلَقَ رَأْسَهُ : أزَالَ عَنْهُ الشَّعْرَ  وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ 
جاء في لسان العرب : والحَلْقُ حَلْقُ الشعر. والحَلْقُ مصدر قولك حَلق رأْسه. وحَلَّقوا رؤُوسهم: شدّد للكثرة.
والاحْتِلاقُ: الحَلْق. يقال: حَلق مَعَزه، ولا يقال: جَزَّه إِلا في الضأْن، وعنز مَحْلوقة، وحُلاقة المِعزى، بالضم: ما حُلِق من شعره.
ويقال: إِن رأْسه لَجيِّد الحِلاق. قال ابن سيده: الحَلْق في الشعر من الناس والمعز كالجَزّ في الصوف، حلَقه يَحلِقه حَلْقاً فهو حالقٌ وحلاقٌ وحلَقَه واحْتَلَقه؛ أَنشد ابن الأَعرابي: لاهُمَّ، إِن كان بنُو عَمِيرهْ أَهْلُ التِّلِبِّ هؤلا مَقْصُورهْ (* قوله «مقصورة» فسره المؤلف في مادة قصر عن ابن الأَعرابي فقال: مقصورة أي خلصوا فلم يخالصهم غيرهم)، فابْعَثْ عليهم سَنةً قاشُورة، تَحْتَلِقُ المالَ احْتلاقَ النُّورهْ ويقال: حَلق مِعْزاه إِذا أَخذ شعرها، وجزَّ ضأْنَه، وهي مِعْزى مَحْلُوقة وحَلِيقة، وشعر مَحْلوق. ويقال: لحية حَليق، ولا يقال حَلِيقة. قال ابن سيده: ورأْس حليق محلوق؛ قالت الخنساء: ولكني رأَيتُ الصبْر خَيْراً من النَّعْلَينِ والرأْسِ الحَلِيق والحُلاقةُ: ما حُلِقَ منه يكون ذلك في الناس والمعز. والحَلِيقُ: الشعر المحلوق، والجمع حِلاقٌ. واحْتلقَ بالمُوسَى. وفي التنزيل: مُحَلِّقين رُؤُوسكم ومُقَصِّرين.
وفي الحديث: ليس مِنَّا من صَلَق أَو حَلق أَي ليس من أَهل سُنَّتنا من حلَق شعره عند المُصيبة إِذا حلَّت به.
ومنه الحديث: لُعِنَ من النساء الحالقة والسالِقةُ والخارِقةُ.
وقيل: أَراد به التي تَحلِق وجهها للزينة؛ وفي حديث: ليس منا من سلَق أَو حلَق أَو خَرق أَي ليس من سنَّتنا رَفْعُ الصوت في المَصائب ولا حلْقُ الشعر ولا خَرْقُ الثياب.
وفي حديث الحَجّ: اللهمَّ اغْفر للمُحَلِّقِين قالها ثلاثاً؛ المحلِّقون الذين حلَقوا شعورهم في الحج أَو العُمرة وخصَّهم بالدعاء دون المقصرين، وهم الذين أَخذوا من شعورهم ولم يَحلِقوا لأَن أَكثر من أَحرم مع النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن معهم هَدْيٌ ، وكان عليه السلام قد ساق الهَدْيَ، ومَن منه هَدْيْ لا يَحلِق حتى يَنْحَر هديَه، فلما أَمرَ من ليس معه هدي أَن يحلق ويحِلَّ، وجَدُوا في أَنفسهم من ذلك وأَحبُّوا أَن يأَذَن لهم في المُقام على إِحرامهم حتى يكملوا الحج، وكانت طاعةُ النبي، صلى الله عليه وسلم، أَولى بهم، فلما لم يكن لهم بُدُّ من الإِحْلال كان التقصير في نُفوسهم أَخفّ من الحلق، فمال أَكثرهم إِليه، وكان فيهم من بادر إِلى الطاعة وحلق ولم يُراجِع، فلذلك قدَّم المحلِّقين وأَخَّر المقصِّرين.
والمِحْلَقُ، بكسر الميم: الكِساءُ الذي يَحْلِق الشعر من خِشونته؛ قال عُمارة بن طارِقٍ يصف إِبلاً ترد الماءَ فتشرب: يَنْفُضْنَ بالمَشافِر الهَدالِقِ، نَفْضَكَ بالمَحاشِئ المَحالِقِ والمَحاشِئُ: أَكْسِية خَشِنةٌ تَحْلِقُ الجسد، واحدها مِحْشأ، بالهمز، ويقال: مِحْشاة، بغير همز، والهَدالِقُ: جمع هِدْلق وهي المُسْتَرْخِيَةُ.
وقالوا: بينهم احْلِقِي وقُومي أَي بينهم بَلاءٌ وشدَّة وهو من حَلْق الشعر كان النساءٌ يَئمْن فيَحلِقْن شُعورَهنَّ؛ قال: يومُ أَدِيمِ بَقَّةَ الشَّرِيمِ أَفضلُ من يومِ احْلِقي وقُومِي الأَعرابي: الحَلْقُ الشُّؤْم.
ومما يُدعَى به على المرأَة: عَقْرَى حَلْقَى، وعَقْراً حَلْقاً ، وأَما حلْقَى وحلقاً فمعناه أَنه دُعِيَ عليها أَن تئيم من بعلها فتْحْلِق شعرها، وقيل: معناه أَوجع الله حَلْقها، وليس بقويّ؛ قال ابن سيده: وقيل معناه أَنها مَشْؤُومةٌ، ولا أَحُقُّها.
وقال الأَزهري: حَلْقَى عقْرى مشؤُومة مُؤْذِية.
حلق (مقاييس اللغة)
الحاء واللام والقاف أصول ثلاثة: فالأوّل تنحية الشعَْر عن الرأس، ثم يحمل عليه غيره.
والثاني يدلُّ على شيءٍ من الآلات مستديرة.
تفث (لسان العرب)
التَّفَثُ: نَتْفُ الشَّعَر، وقَصُّ الأَظْفار، وتَنَكُّبُ كُلِّ ما يَحْرُم على المُحْرم، وكأَنه الخُروجُ من الإِحرام إِلى الإِحْلال.
وفي التنزيل العزيز: ثم لِيَقْضُوا تَفَثَهم ولْيُوفُوا نُذُورَهم؛ قال الزجاج: لا يَعْرِفُ أَهلُ اللغة التَّفَثَ إِلاَّ من التفسير.
ورُوي عن ابن عباس قال: التَّفَثُ الحَلْق والتَّقْصير، والأَخْذُ من اللحية والشارب والإِبط، والذبحُ والرَّمْيُ؛ وقال الفراء: التَّفَثُ نَحْرُ البُدْنِ وغيرها من البقر والغنم،وحَلْقُ الرأْس، وتقليم الأَظفار وأَشباهه. الجوهري: التَّفَثُ في المناسك ما كان مِن نحو قَصِّ الأَظْفار والشارب، وحَلْقِ الرأْسِ والعانة، ورمي الجِمار، ونَحْرِ البُدْن، وأَشباه ذلك؛ قال أَبو عبيدة: ولم يجئْ فيه شِعْرٌ يُحْتَجُّ به.
وفي حديث الحج: ذِكْرُ التَّفَثِ، وهو ما يفعله المحرم بالحج، إِذا حَلَّ كقَصِّ الشارب والأَظفار، ونَتْف الإِبط، وحَلْق العانة.
وقيل: هو إِذْهابُ الشَّعَث والدَّرَن، والوَسَخ مطلقاً؛ والرجلُ تَفِثٌ.
وفي الحديث: فتَفَّثَت الدماءُ مكانه أَي لَطَّخَتْه، وهو مأْخوذ منه.
وقال ابن شميل: التَّفَثُ النُّسُك، مِن مناسك الحج.
ورجل تَفِثٌ أَي متغير شَعِثٌ، لم يَدَّهِنْ، ولم يَسْتَحِد. قال أَبو منصور: لم يفسر أَحدٌ من اللغويين التَّفَث، كما فسره ابن شميل؛ جَعَلَ التَّفَثَ التَّشَعُّثَ، وجعلَ إِذْهابَ الشَّعَثِ بالحَلْق قَضاءً، وما أَشْبهه.
وقال ابن الأَعرابي: ثم ليَقْضُوا تَفَثَهم؛ قال: قَضاءُ حَوائجهمِ من الحَلْق والتَّنْظِيفِ.
التقصير
لسان العرب وقَصَّرْتُه تَقْصِيراً إِذا صَيَّرْته قَصِيراً. والقَصِيرُ من الشَّعَر: خلافُ الطويل. وقَصَرَ الشعرَ: كف منه وغَضَّ حتى قَصُرَ. وفي التنزيل العزيز: مُحَلِّقِين رُؤُوسَكم ومُقَصِّرينَ؛ والاسم منه القِصارُ؛ عن ثعلب. وقَصَّرَ من شعره تَقْصِيراً إِذا حذف منه شيئاً ولم يستأْصله.
وفي حديث عمر، رضي الله عنه: أَنه مر برجل قد قَصَّر الشَّعَر في السوق فعاقَبه؛ قَصَّرَ الشعَرَ إِذا جَزَّه، وإِنما عاقبه لأَن الريح تحمله فتلقيه في الأَطعمة.وقال الفراء: قلت لأَعرابي بمنى: آلْقِصارُ أَحَبُّ إِليك أَم الحَلْقُف يريد: التقصيرُ أَحَبُّ إِليك أَم حلق الرأْس.
يقال قَصَرَ الصلاةَ وأَقْصَرَها وقَصَّرَها، كل ذلك جائز، والتقصير من الصلاة ومن الشَّعَرِ مثلُ القَصْرِ.
النمص
نمص (لسان العرب)
النَّمَصُ: قِصَرُ الرِّيشِ.
والنَّمَص رقَّة الشعر ودِقَّتُه حتى تراه كالزَّغَبِ، رجل أَنْمَصُ ورجل أَنْمَصُ الحاجب وربما كان أَنْمَصَ الجَبِين.
والنَّمْصُ نَتْفُ الشعر.
ونَمَصَ شعرَه يَنْمِصُه نَمْصاً: نَتَفَه، والمُشْطُ يَنْمِصُ الشعرَ وكذلك المحَسَّة؛ أَنشد ثعلب: كانَ رُيَيْبٌ حَلَبٌ وقارِصُ والقَتُّ والشعيرُ والفَصافِصُ، ومُشُطٌ من الحديد نامِصُ يعني المِحَسَّة سماها مشطاً لأَن لها أَسناناً كأَسنان المشط.
وتَنَمَّصت المرأَة: أَخذت شعر جَبِينِها بخيط لتنتفه.
ونَمَّصَت أَيضاً: شدد للتكثير؛ قال الراجز: يا لَيْتَها قد لَبِسَتْ وَصْواصا، ونمَّصَتْ حاجِبَها تَنماصا، حتى يَجِيئوا عُصَباً حِراصا والنامِصةُ: المرأَة التي تُزَيِّنُ النساء بالنَّمْص.
وفي الحديث: لُعِنَت النامصةُ والمُتَنَمّصة؛ قال الفراء: النامِصةُ التي تنتف الشعر من الوجه، ومنه قيل للمِنْقاشِ مِنْماص لأَنه ينتفه به، والمُتَنَمِّصةُ: هي التي تفعل ذلك بنفسها؛ قال ابن الأَثير: وبعضهم يرويه المُنْتَمِصة، بتقديم النون على التاء.
وامرأَة نَمْصاء تَنْتَمِصُ أَي تأْمرُ نامِصةً فتَنْمِص شعرَ وجهها نَمْصاً أَي تأْخذه عنه بخيط.
النَّمْصُ (القاموس المحيط)
النَّمْصُ: نَتْفُ الشَّعَرِ.
و"لُعِنَتِ النامِصَةُ"، وهي مُزَيِّنَةُ النِّساءِ بالنَّمْصِ،
و"المُتَنَمِّصَةُ" وهي المُزَيَّنَةُ به.
والنَّمَصُ، محرَّكةً: رِقَّةُ الشَّعَرِ، ودِقَّتُهُ حتى تراهُ كالزَّغَبِ، والقِصَارُ من الرّيشِ، ونَباتٌ يُعْمَلُ منه الأطْبَاقُ والغُلُفُ، ووَهِمَ الجوهَرِيُّ فَكَسَرَهُ.
والنَّمِيصُ: المَنْتُوفُ،
ج: نُمُصٌ وأنْمِصَةٌ.
ونَمَّصَ الشَّعَرَ تَنْمِيصاً وتَنْماصاً: نَمَصَهُ.
نمص (مقاييس اللغة)
النون والميم والصاد أُصَيلٌ يدلُّ على رِقّة شَعَْرٍ أو نتف لـه. فالنَّمَص: رِقَّة الشَّعر.
والمِنْماص: المِنْقاش.
وشعرٌ نميصٌ، ونبتٌ نميصٌ: نتفَتْه الماشيةُ بأفواهها.


ثانيا : الحلق والتقصير في القرآن الكريم
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ سورة البقرة آية رقم 196
أسباب نزول الآية :
أَخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: «جاء رجل إِلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران، عليه جبَّة فقال: كيف تأمُرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأَنزل الله: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للَّهِ}. فقال: أَين السائل عن العمرة؟ قال: ها أنذا. فقال له: أَلقِ عنك ثيابك، ثمَّ اغتسل، واستنشق ما استطعت، ثمَّ ما كنت صانعاً في حجِّك فاصنعه في عمرتك».
قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} الآية.
روى البخاري عن كعب بن عجرة أنه سأل عن قوله ففدية من صيام قال: «حُمِلْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أَرى أَن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ قلت: لا. قال: صم ثلاثة أَيام أَو أَطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك فنزلت فيَّ خاصة وهي لكم عامة».
وأخرج أحمد عن كعب قال: «كنَّا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصر المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوامُّ تسَّاقط على وجهي، فمرَّ بي النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَيؤذيك هوامّ رأسك؟ فأَمره أَن يحلق. قال: ونزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
وأَخرج الواحدي من طريق عطاء، عن ابن عباس، قال: «لمَّا نزلنا الحديبية جاء كعب بن عُجرة تنتثر هوامُّ رأْسهِ على جبهته فقال: يا رسول الله هذا القمل قد أكلني، فأَنزل الله في ذلك الموقف: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَريضاً} الآية».
قال ابن كثير :
وقوله { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} معطوف على قوله { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وليس معطوفاً على قوله { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} كما زعمه ابن جرير رحمه الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق { حَتَّى يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارناً، أو من فعل أحدهما إن كان منفرداً أو متمتعاً، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يارسول الله، ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال «إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر».
وقوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعت عبد الله بن معقل قال: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة فسألته عن فدية من صيام، فقال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال «ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة» ؟ قلت: لا، قال: «صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك» فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: أتى عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أُوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهي، أو قال حاجبي، فقال «يؤذيك هوام رأسك» ؟ قلت: نعم، قال «فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو أنسك نسيكة» قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ، وقال أحمد أيضاً: حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون وقد حصره المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر عليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أيؤذيك هوام رأسك» ؟ فأمره أن يحلق قال: ونزلت هذه الآية { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وكذا رواه عفان عن شعبة عن أبي بشر وهو جعفر بن إياس به، وعن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به؛ وعن شعبة عن داود عن الشعبي عن كعب بن عجرة نحوه؛ ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، فذكره نحوه، وقال سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري: أنه سمع كعب بن عجرة يقول: فذبحت شاة، ورواه ابن مردويه، وروي أيضاً من حديث عمر بن قيس وهو ضعيف عن عطاء عن قال ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «النسك شاة، والصيام ثلاثة أيام، والطعام فرق بين ستة» وكذا روي عن علي ومحمد بن كعب وعكرمة وإبراهيم النخعي ومجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا عبد الله بن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وقال: «صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، مدين مدين لكل إنسان، أو أنسك شاة، أي ذلك فعلت أجزأ عنك» وهكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: إذا كان أو فأيه أخذت أجزأ عنك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاوس والحسن وحميد الأعرج وإبراهيم والنخعي والضحاك نحو ذلك. (قلت) وهو مذهب الأئمة الأربعة، وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق، وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء أيّ ذلك فعل أجزأه، ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل فالأفضل، فقال: أنسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام، فكل حسن في مقامه، ولله الحمد والمنة. وقال ابن جريج: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: ذكر الأعمش، قال: سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فأجابه بقول يحكم عليه طعام، فإن كان عنده اشترى شاة، وإن لم يكن قومت الشاة دراهم وجعل مكانها طعام فتصدق، وإلا صام لكل نصف صاع يوماً، قال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر، قال: لما قال لي سعيد بن جبير: من هذا؟ ما أظرفه قال: قلت: هذا إبراهيم، فقال: ما أظرفه كان يجالسنا، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال: فلما قلت: يجالسنا انتفض منها، وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا ابن أبي عمران، حدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء، والصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، كل مسكين مكوكين: مكوكاً من تمر، ومكوكاً من بر، والنسك شاة، وقال قتادة عن الحسن وعكرمة في قوله { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: إطعام عشرة مساكين، وهذان القولان من سعيد بن جبير وعلقمة والحسن وعكرمة، قولان غريبان فيهما نظر، لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة الصيام ثلاثة أيام لا عشرة ولا ستة، أو إطعام ستة مساكين، أو نسك شاة، وأن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن، وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا، والله أعلم. وقال هشيم: أخبرنا ليث عن طاوس أنه كان يقول: ما كان من دم أو طعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن، وقال هشام: أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء، وقال هشيم: أخبرنا يحيى بن سعيد عن يعقوب بن خالد، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال: حج عثمان بن عفان ومعه علي والحسين بن علي فارتحل عثمان، قال أبو أسماء وكنت مع ابن جعفر فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلت: أيها النؤوم، فاستيقظ فإذا الحسين بن علي، قال: فحمله ابن جعفر حتى أتينا به السقيا، قال: فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس، قال: فمرضناه نحواً من عشرين ليلة، قال: قال علي للحسين ما الذي تجد ؟ قال: فأومأ بيده إلى رأسه، قال: فأمر به علي فحلق رأسه، ثم دعا ببدنة فنحرها فإن كانت هذه الناقة عن الحلق، ففيه أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن التحلل فواضح.
وقال القرطبي :
قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ} الخطاب لجميع الأمة: مُحْصَر ومُخَلًّي. ومن العلماء من يراها للمحصَرين خاصّةً؛ أي لا تتحلّلوا من الإحرام حتى يُنْحَر الهَدْي. والمَحِلُّ: الموضع الذي يحلّ فيه ذبحه. فالمحِلّ في حصر العدوّ عند مالك والشافعي: موضع الحصر، ٱقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحُدَيْبِيَة؛ قال الله تعالى: {وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} قيل: محبوساً إذا كان محصَراً ممنوعاً من الوصول إلى البيت العَتِيق. وعند أبي حنيفة مَحِلّ الهَدْي في الإحصار: الحَرَم؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} . وأجيب عن هذا بأن المخاطَب به الآمنُ الذي يجد الوصول إلى البيت. فأمّا المُحْصَر فخارج من قول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} بدليل نحر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه هَدْيَهم بالحديبية وليست من الحَرَم. وٱحتجُّوا من السُّنة بحديث ناجية بن جُندب صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ابعث معي الهَدْيَ فانحره بالحرم. قال: «فكيف تصنع به» قال: أخرجه في الأوْدية لا يقدرون عليه، فانطلق به حتى أنحره في الحرم. وأجيب بأن هذا لا يصح، وإنما يُنحر حيث حلّ؛ ٱقتداءً بفعله عليه السلام بالحديبية؛ وهو الصحيح الذي رواه الأئمة، ولأن الهَدْيَ تابع للمُهْدِي، والمهدِي حلّ بموضعه؛ فالمُهْدَى أيضاً يحل معه.
الثانية: واختلف العلماء على ما قرّرناه في المحصَر هل له أن يَحلق أو يَحِلّ بشيء من الحِلّ قبل أن يَنحر ما ٱستيسر من الهَدْي؛ فقال مالك: السُّنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه، قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا حلّ المحصَر قبل أن يَنحر هَدْيه فعليه دَمٌ، ويعود حراماً كما كان حتى يَنحر هَدْيه. وإن أصاب صيداً قبل أن يَنْحر الهَدْيَ فعليه الجزاء. وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحلّ أبداً حتى يَنحر أو يُنحر عنه. قالوا: وأقلّ ما يُهديه شاة، لا عمياء ولا مقطوعة الأذنين؛ وليس هذا عندهم موضع صيام. قال أبو عمر: قول الكوفيين فيه ضعف وتناقض؛ لأنهم لا يجيزون لمُحْصر بعدوّ ولا مرض أن يحلّ حتى يَنحر هديه في الحَرَم. وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدْي ويواعد حامله يوماً ينحره فيه فيحلّ ويحلِق فقد أجازوا له أن يحلّ على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه، وحملوه على الإحلال بالظنون. والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن؛ والدليل على أن ذلك ظنّ قولهم: لو عَطِب ذلك الهَدْيُ أو ضَلّ أو سُرِق فحلّ مُرْسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراماً وعليه جزاء ما صاد؛ فأباحوا له فساد الحج وألزموه ما يلزم مَن لم يحلّ من إحرامه. وهذا ما لا خفاء فيه من التناقض وضعف المذاهب، وإنما بَنَوْا مذهبهم هذا كله على قول ٱبن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له. وقال الشافعي في المحصر إذا أعسر بالهدي: فيه قولان: لا يحلّ أبداً إلا بهَدْي. والقول الآخر: أنه مأمور أن يأتي بما قدر عليه؛ فإن لم يقدر على شيء كان عليه أن يأتي به إذا قَدَر عليه. قال الشافعي: ومن قال هذا قال: يحلّ مكانه ويذبح إذا قَدر؛ فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يُجْزه أن يذبح إلا بها، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر. قال ويقال: لا يَجزيه إلا هَدْي. ويقال: إذا لم يَجد هدياً كان عليه الإطعام أو الصيام. وإن لم يجد واحداً من هذه الثلاثة أتى بواحد منها إذا قدر. وقال في العبد: لا يجزيه إلا الصوم، تُقوّم له الشاة دراهم ثم الدراهم طعاماً ثم يصوم عن كل مُدٍّ يوماً.
الثالثة: واختلفوا إذا نَحر المُحْصَر هَدْيَه هل له أن يَحلِق أوْ لا؛ فقالت طائفة: ليس عليه أن يحلق رأسه؛ لأنه قد ذهب عنه النُّسك. وٱحتجّوا بأنه لما سقط عنه بالإحصار جميعُ المناسك كالطواف والسَعْي وذلك مما يحلّ به المحرِم من إحرامه سقط عنه سائر ما يحلّ به المحرم من أجل أنه مُحْصَر. وممن ٱحتجَ بهذا وقال به أبو حنيفة ومحمد بن الحسن قالا: ليس على المُحْصَر تقصير ولا حِلاق. وقال أبو يوسف: يَحلِق المقصِّر، فإن لم يَحلق فلا شيء عليه. وقد حكى ٱبن أبي عمران عن ٱبن سمعة عن أبي يوسف في نوادره أن عليه الحلاق؛ والتقصير لا بدّ له منه. وٱختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين: أحدهما أن الحلاق للمُحْصَر من النُّسك؛ وهو قول مالك. والآخر ليس من النسك كما قال أبو حنيفة. والحجة لمالك أن الطواف بالبيت والسَعْي بين الصّفا والمرْوَة قد منِع من ذلك كله المحصَر وقد صُدّ عنه؛ فسقط عنه ما قد حِيل بينه وبينه. وأما الحِلاَق فلم يَحُلْ بينه وبينه، وهو قادر على أن يفعله، وما كان قادراً على أن يفعله فهو غير ساقط عنه. ومما يدل على أن الحلاق باق على المحصَر كما هو باقٍ على مَن قد وصل إلى البيت سواء قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، وما رواه الأئمة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمُحَلِّقِين ثلاثاً وللمُقَصِّرِين واحدة. وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه. الحِلاَق عندهم نُسك على الحاجّ الذي قد أتَمّ حجّة، وعلى من فاته الحج، والمُحْصَر بعدوّ والمُحْصَر بمرض.
الرابعة: روى الأئمة واللفظ لمالك عن نافع عن عبد اللَّه بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمّ ٱرْحم المُحَلِّقِين» قالوا: والمُقَصِّرِين يا رسول الله؛ قال: «اللَّهُمّ ٱرحم المحلِّقين» قالوا: والمُقَصِّرين يا رسول الله؛ قال: «والمُقَصِّرين». قال علماؤنا: ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلِّقين ثلاثاً وللمُقَصِّرين مرّةً دليل على أن الحلق في الحج والعُمْرة أفضل من التقصير، وهو مقتضى قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ} الآية، ولم يقل تُقصِّروا. وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزىء عن الرجال؛ إلا شيء ذُكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أوّل حَجة يحجّها الإنسان.
الخامسة: لم تدخل النساء في الحَلْق، وأن سنّتهن التّقصير؛ لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس على النساء حَلْق إنما عليهن التقصير». خرّجه أبو داود عن ٱبن عباس. وأجمع أهل العلم على القول به. ورأت جماعة أن حلقها رأسها من المُثْلَة، وٱختلفوا في قدر ما تُقَصِّر من رأسها؛ فكان ٱبن عمر والشافعي وأحمد وإسحق يقولون: تُقصر من كل قَرْن مثل الأنملة. وقال عطاء: قدر ثلاث أصابع مقبوضة. وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع. وفرّقت حفصة بنت سِيرين بين المرأة التي قعدت فتأخذ الربع، وفي الشابة أشارت بأنملتها تأخذ وتقلّل. وقال مالك: تأخذ من جميع قرون رأسها، وما أخذت من ذلك فهو يكفيها؛ ولا يجزي عنده أن تأخذ من بعض القُرون وتُبقي بعضاً. قال ٱبن المنذر: يجزي ما وقع عليه ٱسم تقصير، وأحْوط أن تأخذ من جميع القرون قدر أنملة.
السادسة: لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه؛ وذلك أن سُنّة الذبح قبل الحلاق. والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأ فنحر هديه ثم حَلق بعد ذلك؛ فمن خالف هذا فقدّم الحلاق قبل النحَر فلا يخلو أن يقدّمه خطأً وجهلاً أو عمداً وقصداً؛ فإن كان الأوّل فلا شيء عليه؛ رواه ٱبن حبيب عن ٱبن القاسم، وهو المشهور من مذهب مالك. وقال ٱبن الماجشون: عليه الهَدْيُ؛ وبه قال أبو حنيفة. وإن كان الثاني فقد روي القاضي أبو الحسن أنه يجوز تقديم الحلق على النحر؛ وبه قال الشافعي. والظاهر من المذهب المنع، والصحيح الجواز؛ لحديث بن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: «لاَ حَرَجَ» رواه مسلم. وخرّج ٱبن ماجه عن عبد اللَّه بن عمرو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل عمن ذَبح قبل أن يَحلِق، أو حَلَق قبل أن يَذبح فقال: «لاَ حَرَجَ».
السابعة: لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نُسك مندوب إليه وفي غير الحج جائز؛ خلافاً لمن قال: إنه مُثْلة؛ ولو كان مثلة ما جاز في الحج ولا غيره، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المُثْلة، وقد حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام، ولو لم يجز الحلق ما حلقهم. وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يحلق رأسه. قال ٱبن عبد البر: وقد أجمع العلماء على حبس الشعر وعلى إباحة الحلق. وكفى بهذا حجة، وبالله التوفيق.
قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} ٱستدلّ بعض علماء الشافعية بهذه الآية على أن المُحْصَر في أوّل الآية العدوّ لا المرض، وهذا لا يلزم؛ فإن معنى قوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} فحلق «فَفِدْيَةٌ»، أي فعليه فِدْية، وإذا كان هذا وارداً في المرض بلا خلاف كان الظاهر أن أوّل الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها لاتساق الكلام بعضه على بعض، وٱنتظام بعضه ببعض؛ ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أوّلها، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدلّ الدليل على العدول عنه. ومما يدلّ على ما قلناه سبب نزول هذه الآية، روى الأئمة واللفظ للدّارَقُطْنِي: «عن كعب بن عُجْرَة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقَمْلُه يتساقط على وجهه فقال: «أيؤذيك هوامُّك» قال نعم. فأمره أن يحلق وهو بالحُدَيْبِيَة، ولم يبيِّن لهم أنهم يحلّون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة؛ فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطعم فَرَقاً بين ستة مساكين، أو يُهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام». خرّجه البخاري بهذا اللفظ أيضاً. فقوله: «ولم يبيِّن لهم أنهم يحلّون بها» يدلّ على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدوّ لهم؛ فإذًا الموجب للفِدْية الحلق للأذى والمرض، والله أعلم.
الثانية: قال الأوزاعي في المُحْرِم يصيبه أذًى في رأسه: إنه يجزيه أن يكفّر بالفدية. قبل الحلق.
قلت: فعلى هذا يكون المعنى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} إن أراد أن يَحْلِق، ومن قدر فخلق ففدية؛ فلا يفتدي حتى يحلق. والله أعلم.
الثالثة: قال ٱبن عبد البر: كلّ مَن ذَكر النُّسك في هذا الحديث مفسَّراً فإنما ذكره بشاة، وهو أمرٌ لا خلاف فيه بين العلماء. وأمّا الصوم والإطعام فاختلفوا فيه؛ فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عُجْرَة. وجاء عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث. وقد جاء من رواية أبي الزبير عن مجاهد عن عبد الرحمن عن كعب بن عُجْرَة أنه حدّثه أنه كان أَهَلّ في ذي القعدة، وأنه قمِل رأسه فأتى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يوقد تحت قِدْر له؛ فقال له: «كأنك يؤذيك هوامّ رأسك». فقال أَجَل. قال: «أحلِق وٱهْدِ هَدْياً». فقال: ما أجد هَدْياً. قال: «فأطعم ستة مساكين». فقال: ما أجد. قال: «صُم ثلاثة أيام». قال أبو عمر: كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أوّلاً فأوّلاً؛ وعامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نصّ القرآن، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم، وبالله التوفيق.
الرابعة: اختلف العلماء في الإطعام في فِدية الأذى؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مُدّان بُمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وهو قول أبي ثور وداود. وروي عن الثّوري أنه قال في الفِدْية: مِن البُرّ نصفُ صاع، ومن التمر والشعير والزبيب صاع. وروي عن أبي حنيفة أيضاً مثله، جعل نصفَ صاعُ بُرٍّ عِدْل صاع تمر. قال ٱبن المنذر: وهذا غلط؛ لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «أن تصدّق بثلاثة أَصْوُع من تمر على ستة مساكين». وقال أحمد بن حنبل مرّةً كما قال مالك والشافعي، ومرّةً قال: إن أطعم بُرًّا فمُدّ لكل مسكين، وإن أطعم تمراً فنصف صاع.
الخامسة: ولا يجزي أن يغدّي المساكين ويعشّيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مُدّين بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغدّيهم ويعشيهم.
السادسة: أجمع أهل العلم على أن المحرِم ممنوع من حَلق شعره وجَزّه وإتلافه بحلق أو نُورة أو غير ذلك إلا في حالة العلة كما نصّ على ذلك القرآن. وأجمعوا على وجوب الفِدية على من حلق وهو مُحْرِم بغير علّة، وٱختلفوا فيما على من فعل ذلك، أو لبس أو تطيّب بغير عذر عامداً؛ فقال مالك: بئس ما فعلٰ وعليه الفدية؛ وهو مخيّر فيها؛ وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ، لضرورة وغير ضرورة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأبو ثور: ليس بمخيّر إلا في الضرورة؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} فإذا حلَق رأسه عامداً أو لبس عامداً لغير عذر فليس بمخيّر وعليه دَمٌ لا غير.
السابعة: واختلفوا فيمن فعل ذلك ناسياً؛ فقال مالك رحمه الله: العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفِدْية؛ وهو قول أبي حنيفة والثوريّ والليث. وللشافعيّ في هذه المسألة قولان: أحدهما: لا فِدْيَة عليه؛ وهو قول داود وإسحق. والثاني: عليه الفدية. وأكثر العلماء يوجبون الفدية على المُحْرِم بلبس المَخيط وتغطية الرأس أو بعضه، ولبس الخُفَّين وتقليم الأظافر ومسّ الطِّيب وإحاطة الأذى، وكذلك إذا حلق شعر جسده أو ٱطّلى، أو حلق مواضع المحاجم. والمرأة كالرجل في ذلك، وعليها الفِدْية في الكُحْل وإن لم يكن فيه طِيب. وللرجل أن يكتحل بما لا طِيب فيه. وعلى المرأة الفدية إذا غطّت وجهها أو لبست القُفّازين، والعمد والسهو والجهل في ذلك سواء؛ وبعضهم يجعل عليهما دماً في كل شيء من ذلك. وقال داود: لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد.
الثامنة: واختلف العلماء في موضع الفدية المذكورة؛ فقال عطاء: ما كان من دمٍ فبمكّة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء؛ وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي. وعن الحسن أن الدم بمكة. وقال طاوس والشافعيّ: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء؛ لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحَرَم، وقد قال الله سبحانه {هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ} رِفْقاً لمساكين جيران بيته؛ فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام، والله أعلم. وقال مالك: يفعل ذلك أين شاء؛ وهو الصحيح من القول، وهو قول مجاهد. والذبح هنا عند مالك نُسك وليس بهَدْي لنصّ القرآن والسنة؛ والنُّسك يكون حيث شاء، والهَدْي لا يكون إلا بمكة. ومن حُجته أيضاً ما رواه عن يحيى بن سعيد في مُوَطّئه، وفيه: فأمر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه يعني رأس حسين فحلق ثم نسك عنه بالسُّقْيا فنحر عنه بعيراً. قال مالك قال يحيى بن سعيد: وكان حسين خرج مع عثمان في سفره (ذلك) إلى مكة. ففي هذا أوضح دليل على أن فِدْية الأذى جائز أن تكون بغير مكة، وجائز عند مالك في الهَدْي إذا نُحر في الحَرَم أن يُعطاه غير أهل الحرم؛ لأن البُغْية فيه إطعام مساكين المسلمين. قال مالك: ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحَرَم جاز إطعام غير أهل الحرم؛ ثم إن قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} الآية، أوضح الدلالة على ما قلناه؛ فإنه تعالى لما قال: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} لم يقل في موضع دون موضع، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه. وقال: «أو نسك» فسمّى ما يذبح نُسكاً، وقد سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ولم يسمّه هَدْياً؛ فلا يلزمنا أن نرده قياساً على الهَدْي، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن عليّ. وأيضاً فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أمر كَعْباً بالفدية ما كان في الحَرَم؛ فصحّ أن ذلك كله يكون خارج الحرم؛ وقد رُوي عن الشافعيّ مثل هذا في وجه بعيد.
التاسعة: قوله تعالى: {أَوْ نُسُكٍ} النُّسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة يَنْسُكها العبد لله تعالى. ويُجمع أيضاً على نسائك. والنُّسك: العبادة في الأصل؛ ومنه قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي مُتعبَّداتنا. وقيل: إن أصل النّسك في اللغة الغسل؛ ومنه نَسَك ثَوبه إذا غسله؛ فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النّسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة؛ فكأن العابد خلّص نفسه من دنس الآثام وسبكها.
وقال السعدي :
ولما فرغ تعالى من ذكر أحكام الصيام والجهاد، ذكر أحكام الحج فقال: {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ} ، الآية، يستدل بقوله: {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّوَٱلْعُمْرَةَ} على أمور:
أحدها: وجوب الحج والعمرة، وفرضيتهما.
الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما وواجباتهما التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: «خذوا عني مناسككم».
الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة.
الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما، ولو كانا نفلاً.
الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما، وهٰذا قدر زائد عى فعل ما يلزم لهما.
السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما {لِلَّهِ} تعالى.
السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما، إلا بما استثناه الله، وهو الحصر، فلهٰذا قال:
{أُحْصِرْتُمْ} ، أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما، بمرض أو ضلالة أو عدو، ونحو ذٰلك من أنواع الحصر، الذي هو المنع. {فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ} ، أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي، وهو سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو شاة يذبحها المحصر، ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لما صدهم المشركون عام الحديبية. فإن لم يجد الهدي، فليصم بدله عشرة أيام كما في المتمتع، ثم يحل.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، وهٰذا من محظورات الإحرام، إزالة الشعر بحلق أو غيره، لأن المعنى واحد، من الرأس، أو من البدن، لأن المقصود من ذٰلك حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته، وهو موجود في بقية الشعر.
وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر، تقليم الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع مما ذكر، حتى يبلغ الهدي محله، وهو يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر، كما تدل عليه الآية.
ويستدل بهٰذه الآية على أن المتمتع إذا ساق الهدي لم يتحلل من عمرته قبل يوم النحر، فإذا طاف وسعى للعمرة، أحرم بالحج، ولم يكن له إحلال بسبب سوق الهدي، وإنما منع تبارك وتعالى من ذٰلك، لما فيه من الذل والخضوع لله، والانكسار له، والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد، وليس عليه في ذٰلك من ضرر. فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض، ينتفع بحلق رأسه له، أو قروح، أو قمل ونحو ذٰلك، فإنه يحل له أن يحلق رأسه، ولٰكن يكون عليه فدية، من صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو نسك ما يجزىء في أضحية، فهو مخير.
والنسك أفضل، فالصدقة، فالصيام.
ومثل هٰذا، كل ما كان في معنى ذٰلك من تقليم الأظفار، أو تغطية الرأس، أو لبس المخيط، أو الطيب، فإنه يجوز عند الضرورة، مع وجود الفدية المذكورة لأن القصد من الجميع إزالة ما به يترفه.
ثم قال تعالى: {أَمِنْتُمْ} ، أي: بأن قدرتم على المبيت من غير مانع عدو وغيره. {فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ} ، بأن توصل بها إليه، وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها. {فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ} ، أي: فعليه ما تيسر من الهدي، وهو ما يجزىء في أضحية، وهٰذا دم نسك، مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة، ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة، وقبل الشروع في الحج، ومثله القِران لحصول النُّسُكين له.
ويدل مفهوم الآية على أن المفرد للحج ليس عليه هدي، ودلت الآية على جواز بل فضيلة المتعة، وعلى جواز فعلها في أشهر الحج.
وجاء في تفسير الجلالين :
ـ { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أَدُّوهما بحقوقهما { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} منعتم عن إتمامهما بعدو { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ} تيسر { مِنَ ٱلْهَدْىِ} عليكم وهو شاة { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ} أي لا تتحللوا { حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ} المذكور { مَحِلَّهُ} حيث يحل ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي فيذبح فيه بنية التحلل ويفرق على مساكينه ويحلق به يحصل التحلل { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} كقمل وصداع فحلق في الإحرام { فَفِدْيَةٌ} عليه { مِّن صِيَامٍ} لثلاثة أيام { أَوْ صَدَقَةٍ} بثلاثة أصوع من غالب قوت البلد على ستة مساكين { أَوْ نُسُكٍ} أي ذبح شاة، وأو للتخيير، وألحق به من حلق لغير عذر لأنه أولى بالكفارة وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره { فَإِذَآ أَمِنتُمْ} العدو بأن ذهب أو لم يكن { فَمَن تَمَتَّعَ} استمتع { بِٱلْعُمْرَةِ} أي بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام { إِلَى ٱلْحَجِّ} أي إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ} تيسر { مِنَ ٱلْهَدْىِ} عليه وهو شاة يذبحها بعد الإحرام به والأفضل يوم النحر { فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الهدي لفقده أو فقد ثمنه { فَصِيَامُ} أي فعليه صيام { ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ} أي في حال الإحرام به فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة والأفضل قبل السادس لكراهة صوم يوم عرفة ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى وطنكم مكة أو غيرها وقيل إذا فرغتم من أعمال الحج وفيه التفات عن الغيبة { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} جملة تأكيد لما قبلها { ذَٰلِكَ} الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع { لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي فإن كان فلا دم عليه ولا صيام وإن تمتع فعليه ذلك وهو أحد وجهين عند الشافعي والثاني لا والأهل كناية عن النفس وألحق بالمتمتع فيما ذكر بالسنة القارن، وهو من أحرم بالعمرة والحج معا أو يدخل الحج عليها قبل الطواف { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ} فيما يأمركم به وينهاكم عنه { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} لمن خالفه.


يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق