الخميس، 1 مايو 2014

الشهاب المنير فيما جاء عن الحلق والتقصير 2


ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ سورة الحج آية 29
قال ابن كثير :
وقوله: { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وهو وضع الإحرام من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظافر ونحو ذلك، وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه، وكذا قال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي. وقال عكرمة عن ابن عباس { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} قال: التفث المناسك.
وقال القرطبي :
قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج؛ كالحَلْق ورَمْي الجمار وإزالة شَعث ونحوه. قال ابن عرفة: أي ليزيلوا عنهم أدرانهم. وقال الأزهريّ: التَّفَث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ وهذا عند الخروج من الإِحرام. وقال النضر بن شُميل: التفث في كلام العرب إذهاب الشَّعَث، وسمعت الأزهري يقول: التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير. وقال الحسن: هو إزالة قشف الإحرام. وقيل: التفث مناسك الحج كلّها؛ رواه ابن عمر وابن عباس. قال ابن العربيّ: لو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإِحاطة باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعراً ولا أحاطوا بها خبراً؛ لكني تتبعت التفث لغةً فرأيت أبا عبيدة مَعْمر بن المُثَنَّى قال: إنه قص الأظفار وأخذ الشارب وكل ما يَحْرُم على المحرِم إلا النكاح. قال: ولم يجىء فيه شعر يُحتج به. وقال صاحب العين: التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب والإِبط. وذكر الزجاج والفرّاء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء. وقال قُطْرُب: تفثَ الرجل إذا كثر وسخه. قال أميّة بن أبي الصَّلْت: حَفُّوا رؤوسهمُ لم يحلِقوا تَفَثاً :: ولم يَسُلُّوا لهم قَمْلاً وصِئبانا 
وما أشار إليه قُطْرب هو الذي قاله ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث. وهذه صورة إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المُعْتَمِر هَدْيه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقَّى ولبس فقد أزال تفثه ووفَّى نذره؛ والنذر ما لزم الإنسان والتزمه. 
قلت: ما حكاه عن قُطْرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماورديّ، وذكر بيتاً آخر فقال: 
قَضَوْا تَفَثاً ونَحْباً ثم ساروا :: إلى نَجْدٍ وما انتظروا علِيّا 
وقال الثعلبيّ: وأصل التفث في اللغة الوسخ؛ تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك؛ أي ما أوسخك وأقذرك. قال أمية بن أبي الصلت: ساخّين آباطهم لم يقذفوا تفثاً :: وينزعوا عنهمُ قَمْلاً وصِئبانا 
الماورديّ: قيل لبعض الصلحاء ما المعنِيّ في شعث المحرِم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته. 
قال السعدي
{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} أي: يقضوا نسكهم، ويزيلوا الوسخ والأذى، الذي لحقهم في حال الإحرام.
وجاء في الجلالين :
{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} أي يزيلوا أوساخهم وشعثهم كطول الظفر { وَلْيُوفُواْ} بالتخفيف والتشديد { نُذُورَهُمْ} من الهدايا والضحايا { وَلْيَطَّوَّفُواْ} طواف الإِفاضة { بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} أي القديم لأنه أوّل بيت وضع للناس.


لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً سورة الفتح آية 27
أسباب نزول الآية : 
أَخرج الفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أُري النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أَنَّه يدخل مكة هو وأَصحابَه آمنين محلِّقين رؤوسهم ومقصِّرين، فلمَّا نحر الهدي بالحديبية قال أَصحابه: أَين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت: {لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيَا} الآية.
قال ابن كثير :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك فقال له فيما قال أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: «بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟» قال لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنك آتيه ومطوف به» وبهذا أجاب الصديق رضي الله عنه أيضاً حذو القذة بالقذة ولهذا قال تبارك وتعالى: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ} هذا لتحقيق الخبر وتوكيده وليس هذا من الإستثناء في شيء. وقوله عز وجل: { ءَامِنِينَ} أي في حال دخولكم. وقوله: { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} حال مقدرة لأنهم في حال دخولهم لم يكونوا محلقين ومقصرين وإنما كان هذا في ثاني الحال. كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «والمقصرين» في الثالثة أو الرابعة. وقوله سبحانه وتعالى: {لاَ تَخَـٰفُونَ}[الفتح:27] حال مؤكدة في المعنى فأثبت لهم الأمن حال الدخول ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة. فأقام بها ذا الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد، قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة. 
فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار أصحابه يلبون. فلما كان صلى الله عليه وسلم قريباً من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه. فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يامحمد ما عرفناك تنقض العهد، فقال صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك ؟» قال «دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال صلى الله عليه وسلم: «لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج». فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء، وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان، فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية . 
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن عبد الله، يعني ابن عثمان عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول ما يتباعثون من العجف، فقال أصحابه لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه وحسونا من مرقه أصبحنا غداً حين ندخل على القوم وبنا جمامة. قال صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم، فجمعوا له وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا وحثا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه ثم قال «لا يرى القوم فيكم غميرة» فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقزون نقز الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط فكانت سنة. قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع: 
وقال أحمد أيضاً: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. فقال المشركون: أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به. 
وفي لفظ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم صبيحة رابعة يعني من ذي القعدة، فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. قال البخاري: وزاد ابن سلمة. يعني حماد بن سلمة، عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن قال ارملوا، ليري المشركين قوتهم والمشركون من قبل قعيقعان، وحدثنا محمد، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركون قوته. ورواه في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينه به. وقال أيضاً: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم، أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، انفرد به البخاري دون مسلم، وقال البخاري أيضاً: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا فليح وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم، حدثنا أبي، حدثنا فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً عليهم إلا سيوفاً ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج فخرج صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح مسلم أيضاً. 
وقال البخاري أيضاً: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضانا عليه محمد رسول الله، قالوا: لا نقر بهذا ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: «أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله» ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «امح رسول الله» قال رضي الله عنه: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحداً إن أراد أن يقيم بها». 
قال القرطبي :
قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة؛ فلما صالح قريشاً بالحُدَيْبِيَة ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يدخل مكة؛ فأنزل الله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ} فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتاً بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأنّ رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. {لَتَدْخُلُنَّ} أي في العام القابل {ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ} قال ٱبن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه؛ خوطب في منامه بما جرت به العادة؛ فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ولهذا استثنى؛ تأدّب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ} (الكهف: 32). وقيل: خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال: «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ». وقيل: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، قاله ثعلب. وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قاله الحسين بن الفضل. وقيل: الاستثناء من «آمِنِينَ»، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة. وقيل: معنى «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» إن أمركم الله بالدخول. وقيل: أي إن سهل الله. وقيل: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» أي كما شَاء الله. وقال أبو عبيدة: «إِنْ» بمعنى «إذ» أي إذ شاء الله، كقوله تعالى: {ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} (البقرة: 872) أي إذ كنتم. وفيه بعد، لأن «إذ» في الماضي من الفعل، و «إذا» في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلّقه بشرط المشيئة، وذلك عام الحديبية؛ فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا؛ ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتدّ عليهم وصالحهم ورجع؛ ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله: {لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ} . وإنما قيل له في المنام: {لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ} فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام؛ فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك، والله تعالى لا يشك، و «لَتَدْخُلُنَّ» تحقيق فكيف يكون شك. ف «إن» بمعنى «إذا». {آمِنِينَ} أي من العدوّ. {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} والتحليق والتقصير جميعاً للرجال، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل، وليس للنساء إلا التقصير. وقد مضى القول في هذا في «البقرة». وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم على المَرْوَة بمِشْقَص. وهذا كان في العمرة لا في الحج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق في حجته. {لاَ تَخَافُونَ} حال من المحلقين والمقصِّرين، والتقدير: غير خائفين. {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خَيْبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوّة وعُدَّة بأضعاف ذلك. وقال الكلبي: أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم. وقيل: علم أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم. {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي من دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر؛ قاله ٱبن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد: هو صلح الحديبية؛ وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري: ما فتح الله في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية؛ لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضاً؛ فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يُكَلَّم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثلُ ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلّك على ذلك أنهم كانوا سنة ستٍّ يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف. 
قال السعدي :
يقول تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ} ، وذٰلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه، أنهم سيدخلون مكة، ويطوفون بالبيت. فلما جرى يوم الحديبية ما جرى، ورجعوا من غير دخول لمكة، كثر في ذٰلك الكلام منهم، حتى إنهم قالوا ذٰلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال: «أخبرتكم أنه العام؟» قالوا: لا، قال: «فإنكم ستأتونه وتطوفون به». قال الله تعالى هنا: {لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَابِٱلْحَقِّ} ، أي: لا بد من وقوعها وصدقها، ولا يقدح في ذٰلك تأويلها.
{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين}، أي: في هٰذه الحال، المقتضية لتعظيم هٰذا البيت الحرام، وأدائكم للنسك، وتكميله بالحلق والتقصير، وعدم الخوف.
{فَعَلِمَ} من المصالح والمنافع {مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ} الدخول بتلك الصفة {فَتْحاً} . ولما كانت هٰذه الواقعة، مما تشوشت به قلوب بعض المؤمنين، وخفيت عليهم حكمتها، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها، وهٰكذا سائر أحكامه الشرعية، فإنها كلها هدى ورحمة.
أخبر بحكم عام، فقال: {هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ} الذي هو العلم النافع، الذي يهدي من الضلالة، ويبين طرق الخير والشر.
{دِينَ ٱلْحَقِّ} ، أي: الدين الموصوف بالحق، وهو: العدل، والإِحسان، والرحمة.
وهو: كل عمل مُزَكَ للقلوب، مطهِّر للنفوس، مُربَ للأخلاق، مُعْلٍ للأقدار.
{ليظهره} بما بعثه الله به {عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ} بالحجة والبرهان، ويكون داعياً لإِخضاعهم بالسيف والسنان. 
وجاء في الجلالين :
{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ} رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم عام الحديبية قبل خروجه أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين ويحلقون ويقصرون فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا فلما خرجوا معه وصدهم الكفار بالحديبية ورجعوا وشق عليهم ذلك وراب بعض المنافقين نزلت. وقوله «بالحق» متعلق بـ «بصدق» أو حال من «الرؤيا» وما بعدها تفسيرها { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ} للتبرك { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ رُءُوسَكُمْ} أي جميع شعورها { وَمُقَصِّرِينَ} بعض شعورها، وهما حالان مقدّرتان {لاَ تَخَـفُونَ} أبدا { فَعَلِمَ} في الصلح { مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} من الصلاح { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ} أي الدخول { فَتْحاً قَرِيباً} هو فتح خيبر، وتحققت الرؤيا في العام القابل.


يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق